المعاهد بمدينة الحمامات مجموعة تلاميذ من أداء صلاة جماعية في مرافقها على النقاش العام في البلاد التي انقسمت مرة أخرى الى فريقين، كل منها حصر الأمر في جدل الصلاة في المؤسسات التربوية ، جدل لم يغب عنه الطابع الأيديولوجي الذي ضيق زاوية التعامل مع الواقعة وغيرها من وقائع شهدتها المؤسسات التربوية من منظور الهواوي والأخلاقي، وبات النقاش مقتصرا على مسألة انضباط وحدود الحرية الدينية.
معضلة وقعنا فيها لأنه يبدو من السهل أن نقرأ الأحداث في سياق السجالات التي عرفتها تونس حول علاقة الدين بالمدرسة أو بالدولة وفي سياق استقطاب سياسي حاد في المجتمع. غير أنه من المجحف الاقتصار على هذه القراءة السجالية التي لا تخلو من محاولات التوظيف السياسي وجر البلاد والعباد الى معارك تختلف باختلاف الجهة، فهي معركة هوية لدى جزء من المنتصرين لحق التلاميذ في الصلاة في فضاءات تربوية، لعل ابرز مثال عنها هو اقدام مجموعة من المحامين على احداث لجنة لدعم حراك المصليات والدفع بالامر الى اقصاه بهدف التوظيف، اوهي معركة تحرر وسيادة نظر للواقعة على أنه جزء من مخطط تآمري أوسع يهدف الى تمكين المنظومة القديمة من العودة للحكم، وهذا ذهب اليه لفيف واسع من انصار السلطة الذين اعتبروا التلاميذ جزء من مؤامرة.
هذا الطرح الاحادي من هذا الجانب او ذاك ، الذي فرض نفسه في النقاش العام ادى الى ان تغيب او كاد ان يغيب اصوات تدعو الى التعامل مع الواقعة وغيرها من الاحداث من منظور أشمل يهدف الى فتح نقاش مجتمعي يهدف الى فهم جيل جديد ومطالبه و منظومته القيمية او ادوات تعبيره عن نفسه في فضاء عام لم يتسع له بعد.
هذه الدعوات والاصوات تطالب بان تفكك الصورة ونبحث عن ما هو خلفها، والقصد هنا البحث عن فهم جوهر التحول الجيلي والاجتماعي الذي نحن ازاءه. فالشباب الذين فجّروا الجدل اليوم لا يتحركون بالضرورة من داخل معارك الهوية القديمة التي عرفها المجتمع، بل ينطلقون من موقع مختلف، فهو جيل يملك أدوات جديدة للتعبير، يعيش في فضاء رقمي متواصل، ويبحث عن اعتراف يتيح له أن يكون فاعلًا في النقاش العمومي، لا مجرد موضوع يُتخذ ذريعة لتصفية الحسابات السياسية. وقد عبر عن ذلك منذ أول الفيديوهات التي نشرت بشأن الواقعة.
ففي هذا الجانب المتعلق بقدرة جيل جديد من التونسيين على الولوج للفضاء العام والمساهمة في النقاشات فيه، تبين اننا امام جيل متّصل كليًا بالمنصات. اختار أن يتفاعل ويعبر عن نفسه ومطالبه عبر صور ومقاطع قصيرة وكل الأدوات التي توفرها له المنصات بعيدا عن الأشكال التقليدية وأدوات المساهمة في النقاش داخل الفضاء العام سواء إلقاء خطب او نشر نصوص او بيانات الخ، وذلك بهدف تجاوز اقصاءه من النقاش بعد ان غيب و اغلقت امامه قنوات المشاركة المؤسسية، واقتصر حضوره على انه «موضوع» لا صوت له.
وهذه هي المفارقة المجتمعية، اذ يبدو انه التونسيين بمؤسساتهم السياسية والتربوية والإعلامية، تعاملوا مع الامر على انه «ظاهرة» فجعل الامر متعلق بـ»تلاميذ» متمردين يحتاجون الى تاديب وضبط او الى «نخبة الصحوة الدينية» تنتضر المؤازرة والدعم ، وهو ما دفع بالنقاش الى مربع «التهديد» سواء كان التلاميذ مصدر التهديد ام هم معرضون للتهديد. وغاب عنا كليا ان التعبيرات التي اختارها هذا الجيل للاعلان عن وجوده ومطالبه اعمل من ان تحاصر في قوالب جاهزة او تكون تحت وصاية.
فنحن ازاء جيل من التونسيين يبدو ان كل يطلبونه هو أن يُعترف بهم كفاعلين في صياغة الأسئلة الجماعية. فالجدل الذي ينطلق من مسألة الصلاة يمكن أن يُقرأ، في مستوى آخر، كنداء يقول: «ها نحن هنا، لدينا ما نقوله عن معنى الحرية، عن حدود السلطة، عن علاقتنا بالفضاء العام». من هنا، فإن مسؤولية المجتمع لا تكمن في حسم النقاشات بمعايير الماضي، بل في تطوير فضاءات إصغاء جديدة. إصغاء لا يعني الاستجابة الفورية لكل مطلب، بل الاعتراف أولًا بشرعية طرح السؤال.
فما يحتاجه الجيل الجديد من التونسيين ليس وصاية ولا تجريمًا ولا حتى مديحًا مجانيًا، بل فضاءات يشارك من خلالها في صياغة المعنى المشترك لا كجمهور، بل كشركاء. وهذا يستوجب حوار مع هذا الجيل كما يستوجب شجاعة فكرية، للاقرار بان أسئلته لا تشبه أسئلتنا القديمة، وإن تجاهل هذه الأسئلة لن يلغيها، بل سيدفعها الى عوالم نجهلها ولا نعلم عنها شيء، الا ان نكتشف فجأة اننا ازاء جدل وطني عن مسالة او واقعة نجح هذا الجيل في نشرها في الفضاء الافتضراي قبل ان تنتشر بسرعة الى الواجهة وتصبح العنوان الابرز لقضية وطنية.
وهذا ما حدث في واعقة احدى المؤسسات التربوية بالحمامات، التي ينبغي أن تكون فرصة لإعادة النظر في علاقتنا بالجيل الجديد.لا لزجة في صراعات لم يخترها، ولا لاستعماله ورقة في معارك سياسية، بل لفتح أفق يُعيد للفضاء العام وظيفته الأصلية، وهي أن يكون ملكًا لجميع المواطنين، بما في ذلك أصغرهم سنًا. فالمشاركة ليست امتيازًا نمنحه متى شئنا، بل حقّ أصيل.
خطوة قد تكون هي الاصعب، فمن السهل علينا أن نُعيد احياء خطاب الهوية ونخوض معارك قديمة نعرف تفاصيلها. عوضا عن التحلي بالشجاعة لنصغي إلى المختلف والجديد. فهذا يعنى ان ننظر الى الامر على انه ليس مجرد نقاش حول صلاة في معهد من عدمها، بل على أن جيلًا كاملًا يطرق أبواب الشأن العام بطريقته الخاصة. والسؤال الحقيقي، هل نستطيع أن نفتح له هذه الأبواب، أم سنواصل إحكام إغلاقها