Print this page

بين الإعلان والتنفيذ: هل يكفي الاعتراف لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ؟

شهد العالم يوم الاثنين الفارط لحظة فارقة في مسار

القضية الفلسطينية. موجة الإعلان عن الاعتراف بدولة فلسطينية من قبل الدول الكبرى، خاصة الأوروبية منها: فرنسا وبريطانيا والبرتغال، إضافة إلى اعتراف كل من كندا وأستراليا، هي بلا شك من أهم اللحظات الفارقة في مسار إنشاء الدولة الفلسطينية التي أعلن عن قيامها الرئيس الراحل ياسر عرفات سنة 1988.

37 سنة مرّت فشلت فيها المساعي الدبلوماسية وانهار فيها اتفاق أوسلو، وشنّ فيها الاحتلال حروبًا عدة، خاصة على قطاع غزة، وآخرها حرب الإبادة المستمرة منذ 2023، التي يبدو أنها كانت الثمن الباهظ المقتطع من دماء وأجساد الفلسطينيين لإقناع الدول الأوروبية والغربية بالأساس، التي ظلّت ترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أن تغيّر من موقفها تحت وطأة ضغط شوارعها المحتجة على التواطؤ والصمت أمام حرب إبادة تُبث مباشرة وتنقلها الفضائيات والمنصات.

وهذا ما يجعل من الاعتراف بدولة فلسطينية ليس فقط مخرجًا دبلوماسيًا لرفع الحرج عن الأنظمة الغربية، بل انتصارًا وإعادة تعريف للشرعية الدولية، وإحياءً لحل الدولتين الذي كان الخيار الأكثر حضورًا في كلمات عدة قادة دول شاركوا في مؤتمر نيويورك يوم الاثنين 22 ديسمبر الجاري، ولعل أبرزهم إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، الذي تقدّمت بلاده مع المملكة العربية السعودية بمبادرة جديدة تسعى لترسيخ حل الدولتين كإطار وحيد قابل للتطبيق لإنهاء الصراع.

هذه المبادرة، وما تتضمنه من الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة ولكنها منزوعة السلاح، جاءت رغم نقاط ضبابية غير محسومة، لتكون إعلانًا دوليًا بأنه لم يعد من الممكن تجاهل الحق الفلسطيني أو تبرير ممارسات الاحتلال وانتهاكاته، التي باتت وفق قرارات الأمم المتحدة تُصنَّف «إبادة جماعية» يرتكبها الاحتلال ضد الفلسطينيين.

وهو ما يضع المجتمع الدولي، وخاصة الأوروبي الذي دعم الاحتلال في حربه منذ بدايتها وتغاضى عن انتهاكاته وجرائمه، أمام واقع لم يعد قادرًا اليوم، في ظل الحرج الأخلاقي والسياسي، أن يستمر في تجاهل الحقوق الفلسطينية. وهذا ما دفعه إلى خطوته الراهنة المتمثلة في الاعتراف بدولة فلسطينية كخطوة في مسار إحياء حل الدولتين، الذي تقدّمه فرنسا كحل مثالي للمنطقة التي باتت مهددة بخيارات أحادية ينتهجها الاحتلال المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية.

خطة فرنسية ـ سعودية تحظى بقبول واسع نسبيًا من قبل العواصم الغربية، باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر الاعتراف بدولة فلسطينية بمثابة مكافأة لحماس، وهو ذات خطاب حكومة الاحتلال وأشد أعضائها تطرفًا، ممن يعتبرون الاعتراف بدولة فلسطينية مكافأة عن أحداث 7 أكتوبر. وهذا يعبر عن الرفض الصريح من كليهما لموجة الاعترافات، وينبئ بأنهما يسعيان لإفشال الأمر وإحباط إقامة دولة فلسطينية في الأمد القريب.

وهذا ما يفرض السؤال الأهم: هل سيكتفي العالم، والدول الأوروبية أساسًا، بهذا الاعتراف والمراهنة على أنه سيغيّر المعادلة ويدفع باتجاه حل الدولتين، أم أن العواصم الأوروبية ومن خلفها بقية القوى الحية ستدفع باتجاه فرض حل الدولتين وإجبار الاحتلال على احترام الشرعية الدولية؟ فما هو جلي أن مجرد الإعلان عن الاعتراف بدولة فلسطينية لا يعني أن حرب الإبادة انتهت أو أن الاحتلال يتراجع عن انتهاكاته وسياساته التوسعية. فلو تُرك الأمر للنوايا والإعلانات لما حُسم أي صراع، ولما استُرد أي حق. فالإعلان المجرّد من أدوات القوة والضغط يظل إعلانًا لا يمنح الفلسطينيين دولتهم ولا يحميهم من جرائم الاحتلال، وهو ما يعني أن الدول التي ترغب في إحياء حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، خاصة فرنسا بمبادرتها الجديدة، مطالبة بأن توظّف كل آليات الضغط الأوروبية على الاحتلال لإنهاء حرب الإبادة أولًا، والذهاب في مسار سلمي ينتهي بإقامة دولة فلسطينية.

الضغط هنا لا يجب أن يُسلّط فقط على المقاومة التي يُراد منها أن تسلّم سلاحها وأن تعترف بالاحتلال دون أن يكون هناك أي ضمانة فعلية وعملية بأن هذا المسار الدبلوماسي سينتهي بإقامة دولة فلسطينية. إذ يجب أن تضغط فرنسا على الاحتلال، فمسارها الدبلوماسي يفترض لنجاحه التزامًا من كل الأطراف ومن اللاعبين الرئيسيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.

فموقف الإدارة الأمريكية الحالية، بقيادة دونالد ترامب، يبرز كعقبة استراتيجية أمام حل الدولتين، إذ يرفض الاعتراف بدولة فلسطينية، ويؤكد أن أمن الاحتلال يعلو على أي اعتبارات أخرى، كما أن بلاده استعملت حق النقض لإسقاط أكثر من مشروع قرار لمجلس الأمن بإنهاء الحرب. وهذا يعكس حجم المعضلة المتمثلة في كيفية إقناع أو دفع الولايات المتحدة إلى مراجعة سياستها قبل إجبار الاحتلال على الالتزام بحل الدولتين.

هنا قد تكون أهم أوراق الضغط الفرنسية لإنجاح مبادرتها وإحياء حل الدولتين هي توظيف كل أدوات الضغط الأوروبية، وجعل هذا الخيار خيارًا أوروبيًا استراتيجيًا لا يقتصر دوره على مساعدة الدولة الفتية في تدريب عناصرها الأمنية أو تقديم دعم تقني ومالي لها، بل في التلويح بالذهاب إلى الأقصى في الدفاع عن هذه المبادرة. ومن ذلك مناقشة تطوير العقوبات على الاحتلال إن استمر في حربه وفي سياساته التي تقوّض حل الدولتين. وهنا قد تكون خطوة تعليق التعاون العسكري، وحظر بيع الأسلحة، وفرض قيود على التبادل التجاري، هي النهج الأمثل لدفع الاحتلال إلى إنهاء الحرب وقبول حل الدولتين والالتزام به. لكن هذه الخطوات لا تزال بعيدة المنال، وهو ما من شأنه أن يؤثر على جدية الاعترافات والمبادرة.

لكن ورغم ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه الاعترافات ومحاولات إحياء حل الدولتين هي لحظة يمكن اعتبارها بداية مرحلة جديدة تُظهر فيها الإرادة الدولية استعدادها لدعم الحق الفلسطيني بقطع خطوة في اتجاه استعادة الحل الدبلوماسي كإطار للسلام. وهو ما يبقي الأمل معقودًا على أن نشهد زخمًا دوليًا ينتهي بسياسة عملية تُنهي معاناة الشعب الفلسطيني، وتضع حجر الأساس لدولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية

المشاركة في هذا المقال