Print this page

موجة الاعتراف بدولة فلسطينية: نصر سياسي لخيار المقاومة

تواصل آلة الاحتلال الحربية استهداف الفلسطينيين في قطاع غزة

في يوم كان يفترض أن يكون أيامهم وأيام كل فلسطيني. المشهد السياسي الدولي في بداية هذا الأسبوع كان بعنوان موجة الاعترافات الأوروبية والغربية بدولة فلسطين، حيث أعلنت عواصم كبرى مثل لندن وأوتاوا وكانبيرا ولشبونة عن اعترافها بدولة فلسطينية، وهو ما مثّل للحظة نصرًا سياسيًا للقضية الفلسطينية بفضل مقاومتها، التي نجحت بصمودها في دفع العالم نحو تحول نوعي تجاه الاحتلال، الذي بات اليوم محاصرًا سياسيًا وأخلاقيًا، مع أنه وللأسف لا يزال متفوقًا عسكريًا.

موجة الاعترافات الأخيرة بفلسطين، وإن لم تعدل الواقع الميداني سواء بفرض نهاية الحرب أو وضع حد للتجويع والتهجير، تمنح الفلسطينيين رغم ذلك أوراق ضغط دبلوماسية وقانونية جديدة في مسار الدفاع عن قضيتهم وحقهم المشروع، وتضع الاحتلال في مواجهة فرضية عزلة تتنامى، خاصة في ظل ردود فعل اليمين المتطرف في حكومته، الذي ذهب إلى تصعيد خطابي وتهديدات ضد الفلسطينيين.

ورد الفعل العنيف لحكومة الاحتلال يشرح الكثير، ليس في علاقة آنية بمصير حرب الإبادة ووضع حجج لها، بل في إدراك قادة الاحتلال أنهم إزاء موجة من المتغيرات التي تعلنها الاعترافات الأوروبية لدول كانت بالأمس القريب حليفًا موثوقًا وداعمًا للاحتلال وحربه ضد دولة فلسطينية، ويتجاوز أثرها الرموز السياسية ليعلن بداية تشكّل طوق من العزلة يحاصر الاحتلال، الذي تمثل موجة الاعتراف الأخيرة بشكل صريح إدانة أخلاقية وسياسية لا يمكن إنكارها.

فموجة الاعتراف الجديدة، التي رفعت قائمة الدول المعترفة بفلسطين إلى 152 دولة، توجه رسالة مزدوجة إلى الإدارة الأمريكية بأن القضية الفلسطينية باتت قضية إنسانية ومعيارًا أخلاقيًا لا يمكن تجاوزه، وإلى حكومة الاحتلال بأن سياستها الحالية تُفقدها حلفاءها التقليديين وتقلل من شرعيتها في المحافل الدولية. هذه الرسالة لا تغيّر الكثير في ميزان القوى العسكرية، ولا تمنح الفلسطينيين أسلحة لصد العدوان أو رغيف خبز لسد الرمق، لكنها لا تفقد أهميتها ودلالتها.

فالإعلام العبري كان من بين أول من أقرّ بأثر هذه الموجة، إذ عبرت تغطيات جل وسائل الإعلام اليسارية والليبرالية عن عمق أزمة الاحتلال ونخبه، التي باتت اليوم تواجه واقع تآكل «الشرعية الأخلاقية والسياسية» عبر موجة الاعترافات الدولية المتزايدة. بالنسبة للإعلام العبري اليساري أو الليبرالي، فإن موجة الاعتراف تشكّل «صفعة سياسية» وتضعف نفوذ الاحتلال في أوروبا والغرب، وتعتبر أن استمرار حرب الإبادة والسياسات المتطرفة يهدد تحالفات الاحتلال التاريخية ويجعل دوائر الضغط وجماعاته في العواصم الغربية أقل تأثيرًا على القرار.

الاستماع إلى خطاب نخبة الاحتلال وإعلامييه يشكّل مدخلًا لفهم أبعاد اعتراف كل من بريطانيا والبرتغال وكندا بالدولة الفلسطينية، وكذلك تلويح دول أوروبية أخرى بالاعتراف. الاحتلال يدرك أن ارتفاع عدد الدول التي تعترف بفلسطين قد يعدل من موقع فلسطين في المؤسسات الدولية، ما يعني اقترابها خطوة إضافية من العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وما تتيحه هذه العضوية من أدوات ومنصات لدعم قضيتها ومنع تصفيتها بأي شكل كان، بما في ذلك مساعي التهجير والضم التي تلحّ بها حكومة الاحتلال.

الاعتراف بدولة فلسطينية يمنح هذه الدولة، وإن كانت منزوعة السلاح، أدوات من القانون الدولي، من المحاكم الجنائية الدولية إلى المعاهدات الحقوقية، ويمكن توظيفها ضد قادة الاحتلال ومسؤولي سياساته، ما قد يضعهم أمام مساءلة قضائية دولية، وإن كان الأمل في تحقيق العدل بعيد المنال.

الأهم في موجة الاعترافات اليوم لا يكمن فقط في أنها إجابة دولية عن خطة ترامب ونتنياهو لتهجير الفلسطينيين ومنع قيام دولتهم، بل أيضًا في أنها إعلان صريح بأن نفوذ الاحتلال وسطوته الدبلوماسية ضعفت، خصوصًا في أوروبا، التي كشفت عن تقلص قدرة «لوبي الاحتلال» على توجيه سياسات العواصم الغربية كما كان في العقود الماضية، خاصة وأن هذه الأنظمة أصبحت تحت نير انتقادات شعوبها وضغطهم المستمر عليها.

وهذه هي نقطة الفوز التي قد تكون الأهم؛ فموجة الاعترافات الراهنة هي بشكل لا مواربة فيه نتيجة لتأثير الشارع، إذ عكست المسيرات المليونية والإضرابات العمالية والاعتصامات الطلابية أن الرأي العام في الدول الغربية والأوروبية تولى عملية الضغط على حكوماته لإعادة تقييم الدعم السياسي والمالي للاحتلال، وقاد في اتجاه سياسات داعمة للحق الفلسطيني ومطالبة بوقف الحرب.

موجة التضامن والدعم الشعبية التي اجتاحت العالم دفعت العواصم الغربية إلى تعديل قراءتها والبحث عن اصطفاف جديد لا ينتصر فقط للقضية الفلسطينية، بل يعيد لموقع أوروبا والغرب في المشهد الدولي جزءًا من المبادرة التي كانت خاضعة للهيمنة الأمريكية. فالدول الأوروبية اليوم تطمح من خلال موجة اعترافاتها إلى التأثير على المستقبل الفلسطيني، وإحياء حلّ الدولتين، حيث تتحول الاعترافات إلى أداة ضغط فعالة. لكن هذه الموجة قد تصطدم برفض الاحتلال، ما يضع الدول الأوروبية أمام امتحان عسير يتمثل في قدرتها على وقف الدعم وبيع السلاح للاحتلال، لضمان أن لا يكون الاعتراف بالفلسطينيين مجرد مشهدية سياسية، خاصة وأن فرضية التصعيد العسكري من قبل الاحتلال قائمة، لا فقط في غزة بل في الضفة الغربية أيضًا.

في هذا المشهد، قد تتضح الحقيقة المركزية التي باتت جلية للجميع: القوة العسكرية للاحتلال لن تكون هي الأداة الحاسمة، بل الأدوات السياسية والدبلوماسية التي حقق الفلسطينيون بها بفضل مقاومتهم وصمودهم الانتصار تلو الآخر

المشاركة في هذا المقال