بالعاصمة القطرية في ظرف استثنائي، دون آمال كبرى سواء تعلق الأمر باعتداءات الاحتلال المتكررة، وآخرها الاعتداء على الدوحة مقر انعقاد القمة، أو بعلاقة بالسياسات الكبرى العربية، وخاصة الخليجية، فيما يخص الرهان على التحالف أو على المظلة الأمنية الأمريكية. فهذه القمة، كما غيرها، ستنتهي دون أن تغيّر مباشرة ما يُذكر من توجهات دول المنطقة، لكن رغم ذلك، قد تحمل في العمق منعطفاً بالغ الدلالة.
فالقمة بهذا المستوى وفي هذا التوقيت لا يمكن قراءتها فقط على أنها استجابة آنية لغارة الاحتلال على الدوحة أو حملة تضامنية مع قطر دون غيرها. فحجم الوفود والتلميحات والخطابات تنبئ بما هو أشمل وأكثر تعقيداً، ما يسمح بالنظر إلى القمة على أنها بداية لإعادة تعريف مفهوم «التهديد» ومن يمثله في المنطقة. وتختزل الكلمات وتتكثف لتكشف أن دول الخليج، بالأساس، تطرح على نفسها اليوم تحديد كيفية النظر للاحتلال بعد استهدافه لأحد دول مجلس التعاون: هل هو تهديد قائم وخطر مؤجل، أم حليف وشريك يمكن التعايش معه واحتواؤه؟
هذا هو التغيير الذي تحمله القمة، وإن بشكل غير صريح ومباشر. فالمنطقة العربية، وخاصة الخليج، كانت منذ سنوات تتبع سياسة إعادة تموضع في علاقة بالاحتلال منذ طرح مبادرة السلام عام 2002، قبل أن تتطور الأمور ويختار ثلث دول مجلس التعاون الخليجي التطبيع مع الاحتلال وفتح مسار يهدف إلى دمج الاحتلال في المنطقة تحت مقولة أن ذلك قد يشكّل رافعة للاستقرار والتنمية.
لكن هذا الخيار ليس الوحيد الذي يُطرح اليوم على المراجعة، بل خيار الصمت أو التعايش الحذر بات أيضًا محل مساءلة من قبل دول المنطقة، لا فقط العربية، بل الإسلامية التي تدرك أن الهجوم على الدوحة فرض معادلة مختلفة فيما يخص الاحتلال.
فالاعتداء لم يكن على أرض فلسطين المحتلة، أو على دول منخرطة في محور المقاومة أو إيران، بل كان هجوماً على دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي، ما ينقل النقاش بالنسبة لدول الخليج من «تضامن مع قضية خارجية» إلى «دفاع عن سيادة وطنية مهددة». وهذا التحول الرمزي وحده كافٍ لإعادة ترتيب الأولويات الإقليمية. والأمر نفسه ينطبق على دول إسلامية شرق أوسطية، ومنها تركيا، التي تدرك أن قائمة أهداف الاحتلال توسعت، وأن طموحه أن يكون قوة إقليمية مهيمنة يهدد الجميع ويضعهم تحت نيرته العسكرية المدعومة أمريكياً.
في هذه السياقات انعقدت القمة، التي لم ولن تعلن نهاية مسار التطبيع أو قطع العلاقات أو إلغاء الاتفاقات، لكنها وضعت مسار التطبيع على طاولة النقاش، وهو ما يعكس وعياً بأن رهان السنوات الأخيرة على إدماج الاحتلال كعضو طبيعي في المنطقة أصبح محل تشكيك، والاستمرار فيه محفوف بالمخاطر.
هذا النقاش ليس مراجعة كاملة للتحالفات الكبرى، لكنه بداية طرح سؤال جوهري: هل يمكن الوثوق بالاحتلال واعتباره شريكاً وهو يهاجم أراضي دول ذات سيادة؟ وهل يمكن أن يستمر منطق «السلام مقابل التنمية» إذا كان الثمن هيمنة الاحتلال على المنطقة وترهيبها؟
هذا هو التحول الأبرز: انتقال الاحتلال من كونه «مشكلة فلسطينية» أو مصدراً للتوتر مع بعض دول الطوق إلى كونه تهديداً مباشراً لسيادة دول الشرق الأوسط والخليجية خاصة. النقاش اليوم يفتح الباب أمام إعادة رسم خريطة الأمن الإقليمي، خاصة للعواصم الخليجية التي قد تعتبر الاحتلال تهديداً وجودياً لا يمكن احتواؤه بمجرد اتفاقيات تجارية أو تفاهمات أمنية مع واشنطن.
هذا يعكس تشكل وعي جديد بأن الاحتلال لاعب توسعي لا يتردد في استهداف أراضي الدول إذا رأى في ذلك مصلحة آنية. وما يعزز ذلك أن الاحتلال، منذ قيامه، لم تتوقف قيادته عن إعلان سياستها القائمة على إعادة صناعة الوقائع، بكل السبل سواء الحروب أو العمليات العسكرية الصغيرة أو الكبيرة، كلها محاولات لإعادة تشكيل الخريطة بما يخدم مشروع «إسرائيل الكبرى».
وهذا جعل قادة الدول العربية والإسلامية يدركون أن سياسة فرض الأمر الواقع لن تقتصر على الفلسطينيين أو السوريين، بل ستطالهم. فالاحتلال، خلال السنتين الماضيتين، كان يختبر حدود قدرته على تطويع المنطقة بأكملها لهيمنة. ومع كل تحرك وجولة، يتضح أن المشروع الأكبر هو تحويل المنطقة العربية إلى مجال نفوذ للاحتلال، أي منطقة تتعايش مع حضوره لا كعضو طبيعي فقط في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، بل كقوة مهيمنة على كامل المنطقة. وهذا ما يجعل قمة الدوحة، رغم غياب الرهانات المباشرة عليها، لحظة مفصلية لإعادة التذكير بأن الاحتلال ليس شريكاً محتملاً، بل تهديداً حقيقياً لكل دول المنطقة.
هنا يكمن النقاش سواء في القمة أو بعدها، وهو متعلق بتحديد من يمثل الخطر، ومن يحدد الشريك، وهل يمكن الثقة بالضمانات الأمنية الأمريكية؟ هذه الأسئلة أطلقتها القمة، حتى بشكل غير مباشر، وفتحت أبواباً كانت من قبل موصدة: إعادة النظر في الاحتلال الذي كان يُنظر إليه كـ»جار ضروري» أو «حليف مفترض»، ليصبح قوة توسعية.
هذا قد يؤدي تباعاً إلى تجميد مسار التطبيع وتأجيل أي تقارب محتمل بين الاحتلال ودول عربية وخليجية، وستكون أمام ضرورة طرح سؤال «المعنى» في سياساتها، ليس فقط في علاقة بالاحتلال، بل أيضاً في علاقة بتحالفها مع الولايات المتحدة ورهانها على المظلة الأمنية الأمريكية التي أثبتت محدودية فعاليتها تجاه الاحتلال.
وهذا قد يكون أهم ما أفادت إليه قمة الدوحة: لم تغلق باب التطبيع، ولم تدعُ إلى قطيعة شاملة مع الولايات المتحدة أو الاحتلال، لكنها وضعت على طاولة النقاش مسألة إدماج الاحتلال في المنطقة، ونظرته لا كخيار بديهي، بل كمخاطرة استراتيجية.
فالاحتلال رسخ بعد استهداف قطر، ومن قبلها دول عربية عدة، أنه ليس جاراً يمكن التعايش معه، بل قوة توسعية تهدد سيادة الدول. وهذا التحول في الإدراك، حتى لو لم يُترجم فوراً إلى سياسات عملية، يمثل لحظة فارقة. إنه انتقال من منطق الاستيعاب إلى منطق الحذر، من الاعتراف بالاحتلال كشريك محتمل إلى معاملته كخطر لا يمكن تجاهله.
هنا تكمن قيمة القمة إمكانية أن تكون نقطة بداية لإعادة صياغة العقل الاستراتيجي العربي، يعيد تحديد البوصلة ويدرك أن الاحتلال ليس المستقبل، بل الخطر الذي يجب احتواؤه