Print this page

إصلاح التعليم في تونس: هل يكفي ترميم الجدران دون تجديد الرؤية؟

يعود أكثر من مليوني تلميذ وتلميذة تونسيية إلى

مقاعد الدراسة، في مشهد يتكرر مع بداية كل سنة دراسية. ومعه تعود حزمة من الاسئلة التي تطرح للنقاش في الفضاء العام وجلها عن العودة والاستعداد لها وعن البنية التحتية واسعار المستلزمات والنقل وغيرها من التفاصيل.

لكن نغفل بشكل ما عن طرح السؤال الاهم الذي يجب ان تكون اجابته خيار مجتمعي، لسؤال ظاهره بسيط وهو ماذا يريد التونسيين من مدرستهم؟ لكن ان فككناه ونظرنا الى ما تحمله الاجابات من خيارات سنقف على مدى تشابك الامور واهميتها، فنحن في تونس ومنذ تسعينات القرن الماضي لم ننجح في جعل هذا السؤال سؤلا مركزيا في نقاشنا المجتمعي لنجيب عما نريده، هل نريد من مدرستنا ان تكون مسار اكاديمي ينتهي بانتاج شهائد وان يقتصر دورها على ان تكون ممر نحو سوق الشغل ؟ أم نريد مردسة تكون فضاء حر فضاءً لتكوين إنسان/فرد حر الإرادة، ذو ملكة تفكير و نقد، قادر على أن يقود نفسه وان يساهم في مجتمعه نحو مستقبل؟

طرح لم نناقش بشكل جدي ومباشرخلال كل محطات اصلاح التعليم الذي وبعد 70 سنة من استقلال البلاد لم يمكنا من القضاء على الامية التي تبلغ نسبتها اليوم حوالي 20 بالمئة، اي ان فرد من كل 5 تونسيين لا يحسن القراءة والكتابة، وهذا كاف ليستحثنا للبحث عن الاسباب الكامنة وراء هذا الفشل الجماعي، والبحث عن اين مكمن الخطأ، وهذا لا يستقيم ما لم نطرح سؤال ماذا نريد من المدرسة قبل ان ننغمس في عملية جلد للذات او تقيمات ومرجعات.

سؤال يفترض به ان يكون هو اسس عملية الاصلاح التي لا تقتصر على خطة وطنية لتأهيل البنية التحتية، كما هو حالنا اليوم بعد اعلان وزير التربية في جويلية الفارط عن خطة تمتد لثلاث أو أربع سنوات، تهدف الى ترميم المدارس المتهالكة وتحسين ظروف التمدرس.

ولا هو فقط عملية اعادة هيكلة ومراجعة للمواد والزمن المدرسي كما توحي بها الاستشارة الوطنية لاصلاح التعليم التي انطلقت بدعوة من رئيس الجمهورية في 2023 وذلك في اطار اصلاح قدم بعض ملامحه التي يبدو انها تقتصر على إعادة هيكلة النظام التعليمي من خلال إنشاء مجلس أعلى للتربية.

هذه المساعي والمبادرات على اهميتها الا انها تظل محدودة الاثر والنتائج، فهي في جوهرها تقتصر على إصلاح على الجدران والمقاعد والجداول الزمنية والبرامج، في حين ان الإصلاح الحقيقيليس بترميم منظومتنا دون ان نحدد ما المطلوب منها وما نرجوه، هل هي منظومة في خدمة مستقبل جماعي ام مسار فردي/عائلي ينتهي بنجاح او فشل نحدده بما تحصل عليه المتعلم من نتائج وليس من خلال النظر ان كان هذا المسار التعليمي التربوي يصنع تميز الفرد/المواطن في اطار تميز جماعي شامل وليس كفرادة استثنائية.

اي ان السؤال الجوهري الذي لنزل نؤجل طرحه هو اي صورة للإنسان وللمجموعة تحملها المدرسة التونسية؟ هذه الصورة التي تتسلل وتتغلغل في مناهجها واساليب تدريسها ونهجها البيداغوجي وطرق التقييم وغيرها؟ وهي التي تفضى في النهاية الى تحديد ما تقدمه لنا منظومتنا التعليمية كافراد وكمجموعة، في الحاضر وللمستقبل في نهاية المطاف.

لقد اعتدنا منذ الاستقلال على أن نرى المدرسة تلعب دور المصعد الاجتماعي اي انها وسيلة للترقية الاجتماعية، شهادة تخول لصاحبها ان يتقلد منصب براتب يمنح الاستقرار والاندماج المجتمعي. لكن أن هذا التصور النفعي أثبت محدوديته، لأنه يُحوّل التلميذ إلى رقم في معادلات اقتصادية واجتماعية بدل أن يكون فاعلًا في مجتمعه.

فالمدرسة التي تكتفي اطارت الدولة واليد العاملة سواء الماهرة او البسيطة لسوق العمل، هل مدرسة ضيقة الافق ومحدودة الاثر الاجتماعي والقدرة على المساهمة في المستقبل، فاي نظام تعليمي تربوي اليوم لا يهدف الى انتاج افراد ومجموعات من الخرجين تشبعوا بقيم كالحرية وتملكوا مهارات كالتفكير النقدي الذي يشجع على السؤال والجرأة، وتزودوا بمعارف لا لضمان مكان في سوق الشغل بل لتحسين حياتهم وضمان جودتها، هو نظام متعثر لن يستطيع الصمود في عصرنا الراهن.

فمدرسة الاستقلال لم تعد تلبي حاجتنا ولا استحقاقتنا، وما لم نراجعها انطلاقا من تحديد ماذا نريده منها فانن سنكون غير قادرين على المراهنة على المستقبل اللذي لا يمكن ان نحميه بنهجنا الحالي الذي نراهن فيه كمجتمع على ان نجاح صفوة ضيقة من المتعلميين بتميز مقابل أغلبية في الهامش، في تكريس لاعادة انتاج الفوارق والظلم والتعثر.

ان ما يحمي مستقبل تونس ليس نخبة تحتكر المعرفة او التمييز الفردي، بل إلى نخبة واسعة، أي قاعدة عريضة من التونسيين المتمكنين من أدوات العصر، منفتحين على العالم، مدركين لذواتهم، قادرين على المشاركة في صياغة مستقبل جماعي. فالمستقبل لا يُبنى بكفاءات معزولة، بل بجماعة واسعة تمتلك الوعي والمهارة والقدرة على الحلم.

لقد مر على البلاد اكثر من خطة اصلاح للتعليم وسمعنا لعقود الكثير من الخطب والوعود، لكننا لم نر بعد رؤية اصلاحية واضحة وشجاعة. وهو ما يجعل من المدرسة التونسية تحتاج اليوم إلى رؤية مجتمعية قبل أن تحتاج إلى خطة اصلاح فنية، رؤية تعلن أن المطلوب هو إعادة بناء علاقة المجتمع بالمعرفة، علاقة تؤسس للحرية والعدالة والإبداع.

وتجيبنا عن سؤلنا القائم، أي إنسان نريد أن تخرّجه مدرستنا؟ هل هو الذي يحفظ ويطيع وينتظر الوظيفة ، أم هو الذي يسأل وينقد ويبتكر ويدرك ذاته؟ فالمدرسة لا تقاس بعدد الناجحين في البكالوريا ولا بعدد الشهادات الممنوحة، بل بعدد العقول المستيقظة والضمائر الحية والقدرات المتحررة. النجاح الحقيقي ليس أن تفتح المدرسة باب الشهادة، بل أن تفتح أبواب الحرية للافراد وللمجتمع.

ولعلنا مع بداية السنة الدراسية الجديدة نتوقف لحظة للتفكير في كل هذه الاسئلة ولكن قبل كل شي لعلها تكون فرصة لنتفق على أن المدرسة هي رهاننا الأكبر ان لم ننقذها سنبقى نكرر المأساة

المشاركة في هذا المقال