Print this page

الفراغ الاتصالي في زمن المنصات: سيادة السرد المفقودة

لم يكن الدخان المتصاعد فجر أمس قبالة سيدي بوسعيد

مجرّد إعلان عن حريق في سفينة «فاميلي» المشاركة في أسطول الصمود، بل كان إشارة كاشفة لفراغ اتصالي بين عجز المنظومة الرسمية عن التحكم في السرد، وسقوطها مجددًا في ردود فعل متأخرة بلا رؤية أو مبادرة.

حادثة سفينة the family ليست مجرد قصة عن حريق نشب في السفينة وعن «عقب سيجارة» او «قداحة» تسببت فيه، بل هي قصة عن «سيادة السرد» المفقودة، وعن دولة تتنازل، بغير وعي أو بإهمال، عن حقها في كتابة روايتها بنفسها.

ففي اللحظات الأولى للحادثة، كان المنظمون لقافلة «أسطول الصمود» حاضرين بسرديتهم. وبتفاصيل قصتهم «استهداف غادر» ولديهم البطل: «الناشطون المتطوعون» ولديهم الطرف المتهم: «الاحتلال». والأهم، لديهم ما يعتبرونه دليلاً كشف عنه لاحقا وهو مقاطع فيديو تُظهر جسماً مضيئاً يسقط على السفينة. كل عناصر الرواية كانت جاهزة، فانتشرت بسرعة عبر وسائل الإعلام العالمية، واستدرجت تعاطفاً دولياً وصل إلى أن بعض الأصوات أبدت قلقها وتبنت فرضية الاستهداف.

في المقابل، أين كانت الدولة التونسية؟ لقد بدت غارقة في صمتها البيروقراطي، قبل أن تستفيق على وقع الصدمة، لتقدم سلسلة من الهفوات الاتصالية. أولها كان التعجل في إصدار استنتاج مسبق، ففي الساعات الأولى، وقبل أن تُستكمل التحقيقات الفنية، اعلنت وزارة الداخلية في بيان لها عن فرضييتها للحادث وهي أن الحريق اندلع في سترات النجاة بسبب «قداحة أو عقب سيجارة». هذا الاعلان نظر اليه من قبل البعض على أنه إغلاق لملف التحقيق قبل فتحه، أكثر مما كان سعياً لتقديم رواية مدعومة بالتحليل الفني.

الهفوة الثانية تمثلت في محدودية التفاصيل. فقد اكتفى البيان الرسمي الصادر عن الوزارة او عن جهاز الحرس الوطني بعبارات عامة مثل «حريق محدود» من دون أي شرح فني مقنع، اذ لم يوضح مكان اندلاع الحريق بدقة، ولا طبيعة المواد المحترقة، ولا كيفية السيطرة عليه. النتيجة أن الرواية الرسمية بدت عامة قابلة للتشكيك فيها، خاصة بعد انتشار الفيديوهات على منصات التواصل الاجتماعي وانتشارها الواسع.

لتعلن عن الأسوأ، وهو أن الاتصال الرسمي لم يحاول قبل تقديم سرديته واستنتاجته استكمال ابحاثه او الاطلاع على ما التسجيلات لتفكيكها و قراءتها، بل سارع باعلان استنتاجات غير مدعومة بادلة سرعان ما اهتزت بعد انتشار الفيديوهات في ظل صمت رسمي لم يعلن ان كانت التسجيلات سليمة ام مضللة، وهو ما منح الرواية غير الرسمية مساحة أكبر للانتشار والرسوخ في أذهان الجمهور.

إن ما حدث لم يكن مجرد خطأ تقني في صياغة بيان، بل هو انعكاس لعقلية تعتبر الاتصال مجرد إعلان مقتضب، لا صناعة استراتيجية للسرد، فالدولة تصرفت كأنها طرف ثانوي يعلّق على الأحداث بعد وقوعها، و تركت المبادرة للآخرين. وهو خطأ قاتل في زمن معارك السرديات التي تقوم على قاعدة بسيطة وهي ان من ينجح في صياغة قصة متماسكة مدعوة بالادلة يملك القدرة على التأثير في الرأي العام وكسب التعاطف.

حادثة سفينة فاميلي تذكّرنا بأن إدارة الأزمات لا تقتصر على إطفاء الحرائق المادية، بل تشمل أيضاً السيطرة على «الحرائق الرمزية» في الفضاء العام. فالتسرع في تقديم فرضيات غير مكتملة، إلى جانب غياب التفاصيل الفنية الدقيقة، أفقد الرواية الرسمية الكثير من مصدقيتها، خاصة وان مساحات الفراغ في خطا الدولة كانت لافتة، ولان الطبيعة لا تقبل الفراغ فسرعان ما ملأت روايات أخرى ذاك الفراغ بما يخدم أجندات مختلفة.

الدرس الأوضح اليوم هو الاتصال المقترن بالشفافية وبتقديم ما يمكن من مطعيات لا تستبق نتائج التحقيق الفني ولا تؤثر على سيره، هو الخيار الاسلم والأكثر حكمة من خيار التصريحات المتسرعة الباحثة عن الطمأنة والحضور، فالكلمة/الخطاب الرسمي حين يصدر دون تروى ودراسة يتحول إلى عبء، يصعب التراجع عنه.

ففي واقعة الحال الأمر لا يتعلق بتحديد سبب الحريق ومصدره، بل بصورة الدولة نفسها التي باتت اليوم محل تساؤل ان كانت قادرة على السيطرة على سرديتها/روايتها أم مجرد متفاعل مع سرديات الآخرين؟

وهو ما يجعل من حادثة سفينة the family بمثابة جرس إنذاريعلمنا انه في زمن المنصات باتت الصورة والرواية جزء من السيادة، إذ أن سيادة السرد جزء لا يتجزأ من السيادة الوطنية. والدولة التي لا تنجح في امتلاك روايتها، تترك غيرها يكتبها ويخشى ان يستمر الامر ما لم تدرك مؤسساتنا أن إدارة الاتصال ليست ترفاً بل خيار استراتيجي

المشاركة في هذا المقال