Print this page

المولد النبوي: الفضاء الطقوسي والمشترك الجماعي

كل سنة ومع حلول شهر ربيع الأول

تعيش تونس على إيقاع احتفالات المولد النبوي. الأسواق، البيوت، الزوايا والمساجد تتحوّل إلى مساحات يلتقي فيها المقدّس بالاحتفالي، والروحي بالاجتماعي. ولعل مدينة القيروان تقدّم صورة مكثّفة عن هذا التحول، فالمدينة برمّتها تتحول فضاء جماعيًا مفتوحًا لا يعبّر فقط عن طقس ديني عابر، بل عن مشترك في الشخصية التاريخية التونسية، التي استطاعت عبر القرون أن تحافظ على تديّنها الشعبي كفضاء للمشترك، وأن تصمد أمام موجات الحداثة المؤسِّسة من فوق، وأمام محاولات أدلجة الموروث من الداخل. هذا المشترك لم يكن عربيًا-إسلاميًا صرفًا، بل حمل أيضًا بصمة أمازيغية عميقة، لأن المخيال الديني في تونس والمغرب الكبير تَشكّل من تفاعل هذين البعدين عبر قرون طويلة.

فالمولد في تونس ليس فرضًا دينيًا بالمعنى الفقهي «الأصولي»، بل ممارسة اجتماعية رسّختها القرون وأضفت عليها شرعية خاصة. جرى خلفها الفقهاء لإضفاء شرعية نصوصية من منطلق «البدعة الحسنة» التي تقرّب القلوب وتعيد إنتاج الذاكرة الجماعية. هذا البعد هو ما يجعل التديّن الشعبي أكثر عمقًا من مجرد التزام فقهي. إنّه، كما وصفه الراحل عبد الوهاب بوحديبة، «دين يومي حيّ» يترجم في الأفعال والطقوس الصغيرة أكثر مما يُحصر في النصوص الجامدة. وهنا يكمن سرّ استمرارية المولد في تونس: فقوته ليست في مرجعيته الفقهية، بل في رسوخه كعادة جامعة بين العائلات والجهات والأجيال. ومن أبرز ملامح هذا الرسوخ أنّه حمل في طياته عناصر من الثقافة الأمازيغية المحلية، من الرموز والأهازيج الجماعية إلى الطقوس الاحتفالية التي تعكس تقديرًا عميقًا للجماعة والذاكرة المشتركة.

والتاريخ يعلّمنا أنّ الاحتفال بالمولد النبوي ترسّخ منذ العهد الفاطمي قبل أن يعرف سمته الراهنة مع العهد الحفصي. أي أنّه تحوّل عبر الزمن من طقس رسمي احتفالي إلى علامة من علامات الهوية التونسية والمغاربية. هذا التحول لم يكن مجرّد مسار سياسي أو فقهي، بل نتاج حراك مجتمعي أعاد تشكيل الطقس الاحتفالي وطبعه بخصائصه المتنوعة، بما في ذلك رواسب المخيال الأمازيغي الذي يثمّن الجماعة والاحتفال في الفضاء العام. وهنا يبرز ما أشار إليه محمد كِرّو في تصنيفه لأنماط الإسلام المغاربي: أنّ الفضاء الديني لم يكن واحدًا متجانسًا، بل هو مزيج من الرسمي والشعبي، من الطرقي والفقهي، ومن العربي والأمازيغي. ولعل المولد هو التعبير الأوضح عن هذا المزج، ففيه تتجاور طقوس عابرة للأديان والثقافات لتمتزج في نسيج تونسي جامع هو «الإسلام الشعبي»، أو «الفلكلوري»، الذي أنتجه المجتمع بدمج عناصر إسلامية (سنّية، شيعية، إباضية) وأخرى مسيحية ووثنية وأمازيغية.

بهذا المعنى الطقوسي (الشعبي)، تتجاوز احتفالات المولد وظيفتها الروحية لتكشف عن وظيفة اجتماعية تتجلّى في ممارسات تُنتج ما يسمّيه علماء الأنثروبولوجيا «التقارب الطقوسي»، أي لحظة يذوب فيها الفرد في الجماعة ويشعر أنّه جزء من كلٍّ أكبر. هذا الشعور يتضاعف عندما نلحظ استمرار بعض العناصر الأمازيغية في الطقس الجماعي، مثل تقديس الدائرة في حلقات الذكر أو حضور الألوان والزخارف الرمزية في فضاء الاحتفال، وهي عناصر تضرب جذورها في الموروث ما قبل الإسلامي ثم اندمجت في الإسلام الشعبي.

لكن قوة المولد تتجلى أكثر في قدرته على الصمود أمام محاولات الهيمنة أو الإلغاء. فقد سعت الدولة الوطنية، في زمن بورقيبة ثم بن علي، إلى تحييد المجال الديني وإخضاعه للمنطق الحداثي للدولة، فأغلقت الزوايا وحدّت من نفوذ الطرق. ومع ذلك، لم تستطع إلغاء المولد الذي ظل حيًّا في القرى والمدن، حيث استمر كجزء من الذاكرة الجماعية، تغذّيه أيضًا قوة الذاكرة الأمازيغية التي تتمسك بالطقس كأداة لبناء الهوية في وجه السلطة المركزية. في المقابل، جاءت التيارات السلفية بعد 2011 بخطاب متشدد يصف المولد بالبدعة، لكن حضور المناسبة في المخيال الشعبي – بما تحمله من أبعاد جمالية وروحية وعائلية، وأيضًا من رواسب ثقافية أمازيغية – جعل هذا الخطاب محدود الأثر.

إن المولد، بهذا المعنى، مناسبة نكتشف فيها أنّ الهوية الدينية للتونسيين تتشكل بالأداء الجماعي لا بالتصريح العقائدي. فالذي يشارك في الحضرة أو يتقاسم العصيدة ليس بالضرورة صوفيًا أو فقيهًا، لكنه يساهم في إعادة إنتاج المشترك. ومن هنا نفهم أيضًا ازدواجية التوظيف: حيث ترى فيه الدولة رأسمالًا رمزيًا، بينما يحتفظ به الناس كطقس عائلي وروحي. وهذه الازدواجية لا تُضعف المناسبة، بل تضاعف معانيها، خاصة وأنها تعكس ازدواجية أعمق في الهوية التونسية: عربية وأمازيغية، إسلامية ومتعددة الروافد.

هكذا يغدو المولد فضاءً حيًّا لتجديد الهوية، وللتذكير بأن التديّن الشعبي لا ينتمي إلى الماضي وحده، بل إلى حاضرٍ يبحث فيه المجتمع عمّا يجمعه في زمن الانقسامات. في وجه الأزمات السياسية وفقدان الثقة، تذكّرنا احتفالات المولد بأن هناك خيطًا غير مرئي ما زال يربط التونسيين ببعضهم البعض. وربما تكمن قوة الشخصية التاريخية التونسية في هذا بالذات: في قدرتها على تحويل الدين إلى ممارسة اجتماعية، وعلى تحويل الموروث – العربي والأمازيغي والإسلامي – إلى حصنٍ للمشترك، يقاوم في آنٍ واحد الحداثة التأديبية والأدلجة الاختزالية

المشاركة في هذا المقال