Print this page

سلاح التجويع يرتد على الاحتلال: الغــرب أمــام اختبـار القيّم

منذ بداية حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة

كانت القوى الغربية تتلاعب بالكلمات والمصطلحات لتعيد تشكيل واقع مغاير يُمنَح فيه الاحتلال حصانة وغطاء يحول دون مساءلته ويُمكّنه من التمادي في إجرامه واستخدام التجويع كسلاح في حرب إبادته.

لكن اليوم وبعد إقرار الأمم المتحدة بأن مدينة غزة تواجه المجاعة وأن أكثر من نصف مليون فلسطيني مهددون بالموت جوعًا، بات هذا التصنيف وثيقة إدانة علنية تقوّض ما تبقى من دعم غربي للاحتلال وتضع القوى الغربية في موقع حرج غير مسبوق، وهو ما تكشفه تصريحات وزير الخارجية الهولندي كاسبر فالدكامب في مقابلة مع القناة 12 العبرية يوم أمس.

إذ يشدد الوزير المستقيل على أنه «كصديق للاحتلال» يعتقد بأن عليه أن يحذر الآن من أن العملية العسكرية في مدينة غزة والإجراءات الحالية تضر بأمن وبهوية الاحتلال، مشيرًا إلى أن الحرب فقدت الآن مبررها، ويجب أن تنتهي.

هذه الكلمات الصادرة عن أشد داعمي الاحتلال في الحكومة الهولندية المستقيلة، تكشف عن حجم المأزق الذي باتت عليه الأنظمة الأوروبية التي دعمت طوال الأشهر الماضية سياسة التجويع الجماعية التي اعتمدها الاحتلال، الذي يحاصر قطاع غزة ويمنع عنه الغذاء والدواء والماء، بعد أن اطمأن إلى أن شركاءه الغربيين سيتكفلون بتوفير غطاء سياسي ودبلوماسي.

رهان الاحتلال على استمرار الغطاء الغربي كان قائمًا على معادلة بسيطة، وهو أن الأنظمة الغربية ستدعمه طالما لم يصدر اعتراف رسمي بوجود مجاعة، بل ويمكنها أن تتبع نهجه وتنكرها كما أنكروا الإبادة التي يصفونها بالأزمة الإنسانية.

هذا الجدار من الإنكار انهار فجأة عندما أعلنت الأمم المتحدة رسميًا أنّ غزة تعيش حالة مجاعة موثقة، وأن نصف مليون إنسان يواجهون ظروف الجوع الكارثي. بهذا الإعلان، لم يعد بإمكان العواصم الغربية أن تلوذ ببلاغة الإنكار، ولا أن تتخفى وراء تلاعب المصطلحات. فالوقائع التي كانت تطرحها المنظمات الحقوقية والطبية على مدى الأشهر الماضية صارت الآن معلومة رسمية في السجل الأممي. وهنا تحوّل السلاح إلى ضدّه، إذ ان الاحتلال أراد أن يستخدم الجوع كأداة للإخضاع، فإذا بالمجاعة تصبح وصمة سياسية وأخلاقية تلاحقه وتلاحق كل من تواطأ معه.

والمتواطئون من الأنظمة الغربية باتوا في حرج يتجلى في أكثر من مستوى: التناقض بين خطابها القيمي وممارساتها الواقعية. فالأنظمة الغربية التي ترفض الحصار والتجويع في أوكرانيا أو أي سياق آخر، تختار أن تدير وجهها وأن تعتمد عبارات غامضة لا تعترف بالجريمة في غزة، لكنها اليوم وبإعلان الأمم المتحدة فقدت كل أوراق مناوراتها الكلامية ولم يعد ممكنًا القول إنّ «المعطيات غير مؤكدة» أو إنّ «الوضع تحت المراقبة».

ما تعلنه الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها واضح وصريح: غزة في مجاعة، وهذه المجاعة من صنع الإنسان، وبالتالي جريمة حرب، وهو ما يفقد الغرب وحكوماته أي قدرة على المناورة ويضعهم أمام حتمية: إما التحرك أو التواطؤ المباشر والصريح. وهو ما بات عليه الأمر اليوم في ظل انقسام عنيف في الموقف الغربي تجاه الحرب والاحتلال.

إذ يُظهر انقسام العواصم الغربية عمق الفجوة التي تتشكل بينها، بل وعمق الأزمة في القارة الأوروبية التي انقسمت عواصمها وباتت في معضلة سياسية وأخلاقية، أدت إلى تفكك الحكومة الهولندية وإلى مواقف أكثر حدّة من قبل فرنسا وألمانيا، وهو ما يكشف أن الجوع صار أقوى من الاحتلال ومن سرديته.

فمنذ اندلاع الحرب، استندت القوى الغربية إلى سردية الاحتلال وسوّقت لحقه في الدفاع عن نفسه. لكن مع تراكم صور الأطفال الذين يموتون جوعًا، ومع تقارير رسمية عن مجاعة شاملة، تهاوت هذه السردية وسقطت معها قدرة العواصم الأوروبية على تبرير دعمها له أمام شعوبها التي تطرح اليوم سؤالًا: كيف يضمن تجويع نصف مليون إنسان الأمن للاحتلال، وكيف يكون سلاح التجويع دفاعًا عن النفس؟

ليتحول السياق من إنساني إلى سياسي. وتتحول غزة من رقعة جغرافية منكوبة في الشرق الأوسط إلى محكمة قيمية وأخلاقية وسياسية تسائل الغرب والعالم عن مسؤوليتهم وتواطئهم إزاء جرائم الاحتلال، لينقلب السحر على الساحر ويتحوّل سلاح التجويع الذي صُمّم لإذلال شعب إلى لعنة سياسية تطارده وتطارد حلفاءه الذين باتوا يدركون أن من يبرر الجريمة يجد نفسه شريكًا فيها

المشاركة في هذا المقال