على إذاعة «جوهرة أف أم»، بعد سنوات من الحضور اليومي. الإعلان لم يكن مجرد خبر تقني يهم برمجة إذاعية، بل كان صرخة تعيد إلى الواجهة سؤالاً مُلحًّا، وهو هل يغلق ما تبقى من فضاءات الحوار والنقاش العمومي في تونس؟
والامر هنا لا يتعلق ببرنامج «بوليتكا» بل بالمشهد الاعلامي برمته، اذ ان إيقاف البرنامج ـ سواء كان بقرار تحريري أو ضمني ـ ليس الا عنصرا اضافيا في مشهد عام يعكس توجهاً متصاعداً للانسحاب التدريجي من الفضاء العام وتفكيك المنصات الحوارية. وذلك في سياق سياسي يتسم بالانغلاق وتراجع الحريات، وهو ما يجعل من ايقاف برنامج «بوليتكا» وما سبقه من برامج اذاعية او تلفزية جزءاً من نمط تقليص منابر النقاش وتحييد الإعلام عن وظيفته النقدية والتفسيرية.
نمط لم يبرز مباشرة بعد 25 جويلية 2021، بل اشهر واسابيع لاحقة شهدت فيها تونس تحولات عميقة طالت مؤسسات الدولة ومضمون الخطاب العام. ومنه الإعلام، الذي كان أحد أبرز الفضاءات التي وُلد فيها النقاش السياسي بعد الثورة، قبل ان يجد نفسه اليوم أمام إعادة تشكيل قسرية لدوره، سواء عبر التعينات على راس المؤسسات العمومية وتطويعها فيخدمة سردية السلطة لتصبح اعلاما حكوميا بالاضافة الى التضيق على المؤسسات الاعلامية الخاصة التي اعتقد بعضها ان سبيل خلاصه التخلص تدرجيا من البرامج السياسية الحوارية سواء في الإذاعة أو التلفاز، تحت ذرائع تقنية أو اقتصادية او تحريرية، وتوجيه المضامين نحو الترفيه والبرامج الخفيفة على حساب النقاشات الجادة، كما تراجع حضور الشخصيات المعارضة أو الناقدة، وغاب التنوع في الرأي والتحليل.
نتيجة هذا تجسدت في الاشهر الاخيرة لتفرز مشهد إعلامي يميل في جزء واسع منه الى التماثل مع خطاب السلطة سواء بتكرار الرواية الرسمية أو بالصمت عنها بدل مساءلتها أو موازنتها باراء مخالفة تقدم سردية مغيارة تسمح بتفكيك خيارات السلطة وفهمها في سياقها.
هذا الانكماش الذي نضج خلال سنتين ونيف لم يعد الموجس فيه هو غياب التحليل والتعدد، بل ينجر عنه من انتقاء النقاش العام الى فضاءات أقل مهنية وأكثر انفلاتا وشعبوية وبالاساس وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت اليوم منصات للتجريح والتأليب والتضليل والتوجيه في ظل غياب البدائل الجادة. وهذا في النهاية سيقود لتازم المشهد العام اكثر وانتشار الاخبار المضللة وخطاب الكراهية وغيرها من السلبيات التي أثبتت التجارب الديمقراطية المقارنة انها تتغذى من غياب فضاءات الحوار.
كما ان التجارب اثبتت ان التضيق على الاعلام وتقليص دوره في النرفيه عوضا عن ان يلعب جوره كفضاء للنقاش العام غالبا ما يغذي شعورا بالتهميش لدى جزء واسع من المجتمع ويضاعف الاحتقان ، ويُضعف المناعة الجماعية ضد الشعبوية والتطرف.
فالتجارب ايضا بينت ان غياب البرامج الحوارية السياسية التي تقوم على تعدد الأراء لا ينعكس فقط على الإعلاميين او النخبة ، بل على المجتمع برمته فهو سيحرم من فرص لفهم ما يحدث ومن تاثير السياسات العمومية على معاشه حضره ومستقبله كما انه تحول بينه وين القدرة على تكوين رأي وموقف والتفاعل مع محيطه .
إذ إن هذه البرامج ومثيلاتها ممن توفر فضاء للحوار المجتمعي ليست مجرد عروض إعلامية، بل أدوات لصناعة الوعي وتفكيك التعقيدات ومناقشة السياسات العمومية التي تؤثر على حياة الناس، وبهذا المعنى الحوار يصبح الحوار احد شروط الشرعية السياسية والتطور الجماعي فحين تتوقف المجتمعات عن التحاور، تتوقف عن التطور.
لذلك قد يكون توقف الصحفي زهير رجيس عن تقديم برنامج «بوليتكا» جرس إنذار جديدة يذكرنا بان الازمة لا تتعلق ببرنامج اذاعي وحيد بل بل في تآكل شامل لمساحات النقاش المدني في الفضاء السمعي البصري وتقلص مساحات النقاش وتطوير المشترك بين التونسيين.
خطر لا يقتصر التحرك من اجل التصدي له على الإعلامين بل على كل مكونات المجتمع المدني والفاعلين الثقافيين للدفاع عن حق المجتمع في الحوار وفي التعدد، من اجل استعادة فضاءات الحوار لأنها توفر مساحات للتفكير الحر وللاختلاف وتعلم كيف نحلم بمستقبل مشترك