Print this page

الهندسة الجيوسياسية الجديدة: ثلاثية الاحتلال لتفكيك دول الطوق

يكشف كلّ تطور تشهده المنطقة العربية خصوصًا في الشرق الأوسط

أنها تخوض تحوّلًا غير مسبوق يُنهي الحالة التي سادت على امتداد الأربعين سنة الأخيرة على الأقل، ليُعاد تشكيلها وفق هوية المنتصر في الحروب والصراعات التي باتت تُجسّد صراعًا بين مشروعين لن يستقر أحدهما إلا بزوال الآخر.

وهو ما أكدته الغارات الجوية التي شنّها الاحتلال على سوريا يوم أمس، مستهدفًا البنى التحتية العسكرية ومقرات سيادية، كمحيط القصر الرئاسي، ومقر هيئة الأركان العامة، ومحيط وزارة الدفاع، في أعنف هجوم جوي يشنّه منذ عام 2011.

هذا الهجوم لا تكمن دلالته في السياقات التي سبقته، ولا في وقعه المباشر، إذ أن الاحتلال شنّ خلال السنوات العشر الماضية، بحسب تصريحات مسؤوليه، أكثر من 450 غارة جوية ضد أهداف في الأراضي السورية، لكن المختلف هذه المرّة هو طبيعة السياقات، وهو ما تُبرزه تطورات المشهد الإقليمي، وتؤكده تصريحات قادة الاحتلال أنفسهم، الذين يسوّقون عدوانهم على الأراضي السورية تحت ذريعة «حماية السوريين من الطائفة الدرزية» في مدينة السويداء، وتوفير غطاء جوي لحمايتهم من جنود النظام.

هذه الحجة ليست سوى غطاء سياسي ورسائل مبطّنة، لا تُوجَّه للسوريين فقط، بل إلى مختلف القوى الإقليمية التي تحوّلت الأراضي السورية إلى رقعة لصراعاتها وتقاسم النفوذ فيها. فالاحتلال لا يسعى من تدخله ودعمه لفصائل مسلّحة في السويداء إلى حماية السوريين، بل إلى ترسيخ واقع ميداني عمل على تحقيقه منذ انهيار نظام بشار الأسد.

فبعد ساعات من دخول مقاتلي جبهة تحرير الشام إلى العاصمة دمشق، أعاد الاحتلال انتشاره، ليس فقط في الجولان المحتل، بل أيضًا في أراضٍ سورية جديدة تم احتلالها، وأبرزها جبل الشيخ بمحافظة درعا، والذي يُعدّ نقطة استراتيجية تمنحه تمركزًا يطلّ على العاصمة دمشق وريفها، وعلى الحدود السورية–اللبنانية. ولتحصين هذا الموقع، لعب الاحتلال ورقة الطائفية، خصوصًا مع الدروز في الجنوب السوري.

الاحتلال لا يتحرّك هنا بدافع تأمين السوريين أو حمايتهم، بل من أجل استغلال قضيتهم لرسم منطقة عازلة بينه وبين دمشق، عبر جعل المحافظات الحدودية – القنيطرة، ودرعا، والسويداء – مناطق عازلة تتقدّم الخط الأمني الجديد الذي رسمه بعد احتلاله لأراضٍ سورية إضافية.

ولا تقف طموحات الاحتلال عند حدود تأمين المناطق التي احتلّها بعد سقوط النظام، بل تتجاوز ذلك إلى إنشاء حزام أمني يمتد حتى محافظة السويداء، التي ستغدو أشبه بمنطقة عازلة تخضع شكليًا للسلطة المركزية السورية، لكنها في الواقع تمثّل ترحيلًا للشريط الأمني الذي يسعى الاحتلال إلى فرضه، في خطوة إضافية نحو تنزيل خطة «الشرق الأوسط الجديد».

إن قصف الاحتلال لدمشق وسعيه لفرض واقع أمني جديد لا يقتصر أثره على الوضع الداخلي السوري، بل يُمثّل تأكيدًا إضافيًا على أن الشرق الأوسط دخل مرحلة جديدة كليًا، تُنفّذ فيها استراتيجية الاحتلال على الأرض، مُتجاوزًا بذلك مفهوم «الردع الوقائي» لصالح تصور أشمل: إعادة تشكيل المجالين الأمني والجيوسياسي، بدءًا من سوريا، في إعلان واضح على أن الاحتلال يسعى للهيمنة على المنطقة بأسرها، وإعادة رسم خرائطها.

ما يجري في سوريا اليوم يكشف أن استراتيجية الاحتلال تقوم على إعادة هندسة واقع سياسي وأمني جديد في دول الطوق، يخدم مصالحه بعيدة المدى، عبر ثلاثية: التحييد، والاحتواء، والسيطرة/الإخضاع.

وهي ثلاثية سعى الاحتلال إلى تطبيقها في حروبه خلال العامين الماضيين: في حرب الإبادة ضد غزة، وفي مواجهته مع لبنان وحزب الله، وفي صراعه مع إيران، واليوم في تدخله بسوريا. وقد نجح، منذ اغتيال قادة حزب الله، في احتواء النفوذ الإيراني، وتحييد كل من لبنان وسوريا، وهو الآن في طور فرض السيطرة، سواء المباشرة أو غير المباشرة، على المجالين اللبناني والسوري، اللذين تمكّن من دفعهما إلى مغادرة معادلة التأثير الإقليمي، وتحويلهما إلى ساحات مشتّتة ومرهَقة ومفتوحة لكل أشكال التدخل، لا تملك قرارها السيادي.

تهدف هذه الاستراتيجية إلى جعل دول الطوق دولًا محايدة، لا تعادي الاحتلال ولا تدخل في صراع معه، كما هو الحال اليوم في سوريا، التي جرى تحييدها والعمل على إضعاف قدرتها على استعادة وحدتها الترابية تحت سلطة مركزية فاعلة، وتحويلها إلى مراكز نفوذ إقليمي متنازع عليها.

فالاحتلال لا يرى في سوريا الغاية النهائية، بل يعتبرها نقطة انطلاق نحو المشروع الأوسع: إعادة هندسة المنطقة، لا فقط على مستوى الخرائط، بل كذلك على مستوى الكيانات والهياكل الوطنية، التي يراد تفكيكها لضمان إدارة أمنية فعّالة للمجال الجغرافي للدولة، بواسطة أدوات وأطراف تضمن في النهاية مصالح الاحتلال بوصفه القوة المهيمنة على الإقليم.

هذا التصور يجد جذوره في العقيدة الأمنية الصهيونية منذ بن غوريون، والتي ترى أن أمن الاحتلال لا يُصان بالتفوّق العسكري فحسب، بل كذلك بتفكيك البيئة المعادية المحيطة به.

والمأزق لا يكمن فقط في خطورة المشروع الصهيوني، بل في بيئة الصمت أو التواطؤ العربي والدولي المحيطة به، إذ يبدو أن بعض الأطراف تنظر إلى عملية تفكيك الدول كوسيلة لتحقيق «استقرار» للمنطقة تحت هيمنة الاحتلال.

وإذا نجح الاحتلال في تنفيذ هذا التصور، فلن يقف عند حدود سوريا، بل سيتمدّد شرقًا وشمالًا، ليصبح هو القوة المحدّدة لتوازنات المنطقة، خصوصًا بعد احتواء إيران وحلفائها، ولم يتبقَّ سوى تحييد تركيا أو تقاسم النفوذ معها.

لذلك، فإن تحرك الأنظمة العربية اليوم لوقف تنفيذ هذه الاستراتيجية، ولمنع تمكين الاحتلال من فرض منطقه، هو مسألة حيوية لها قبل أن يكون مطلبًا لشعوبها.

فتفكيك سوريا لن يتوقف عند حدودها، بل سيمتد إلى ما بعدها، ويفتح أبواب الفوضى على مصراعيها، في منطقة قد تشهد زوال دول، ونشوء كيانات هشة وهجينة

المشاركة في هذا المقال