Print this page

من الميدان إلى طاولة المفاوضات: المقــــاومة تعيد تشكيــل المشهد

تستمر حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة على وقع تعثّر

المفاوضات في الدوحة، وسعى الاحتلال ومن خلفه حلفاؤه الغربيون إلى فرض بنودهم ورسم مستقبل القطاع، الذي بات اليوم من يحدّد مصيره هي الاعتبارات الميدانية التي تعيد تشكيل الحسابات السياسية.

ففي الساعات الفارطة، أعادت المقاومة رسم المشهد وحدود الممكن في هذه المرحلة، مع انقضاء الشهر الـ21 منذ بداية الحرب، بكمين ناجح أسفر عن مقتل ثلاثة من جنود الاحتلال، أحدهم قتله جيشه لمنع أسره، وهو ما شكّل بوضوح واقعًا على الأرض، ليس فقط يمنح الأفضلية للمقاومة ويعلن عن استعدادها لمبادرة، بل يعلن أن الميدان لم يعد مجرد خلفية للتفاوض، بل هو اليوم أحد العناصر المحددة لمسارات التفاوض وآفاق التسوية.

ففي الأسابيع القليلة الفارطة، كثّفت المقاومة الفلسطينية من عملياتها النوعية، مستهدفة قوات وآليات الاحتلال في مناطق مختلفة من جنوب القطاع، تحديدًا في محيط ما يُعرف بـ»محور موراغ»، الذي يتمسك به الاحتلال ويعتبره عنصرًا حاسمًا في خارطة انتشاره في قطاع غزة اليوم ومستقبلاً، وهو ما يوجّه رسائل مباشرة للمحتل ولحلفائه بأن المناورة ومحاولة فرض خيارات لا تخدم القضية الفلسطينية ولا تؤسّس لحل عادل ومستدام، لن تمر.

بل وتحرص المقاومة على إبراز استعدادها لخوض حرب استنزاف ستكبّد الاحتلال خسائر هو عاجز عن تحمّلها. فالاحتلال، الذي يخوض حرب إبادة تحت شعار تحرير الأسرى والقضاء على حماس، يواجه اليوم لا فقط عمليات نوعية للمقاومة في مناطق تخضع لسيطرته منذ أشهر، ممّا يسقط مقولاته بشأن تفكيك قدرة حماس، التي لم تقتصر على تصعيد عملياتها، بل كشفت أن المقاومين سعوا في عمليتين منفصلتين إلى أسر جنود للاحتلال، تعثّرت الأولى بقرار من المقاومين، والثانية بتفعيل الاحتلال لبروتوكول هنيبال، أي استهداف الجندي وقتله لمنع أسره.

هذه التطورات، التي جدّت في توقيت حساس، هي ردّ المقاومة الميداني على ما يُقدَّم لها من بنود اتفاق غير معلن في المقترح الأميركي، وهو تسويق الانسحاب الجزئي لجيش الاحتلال على أنه تنازل من قبله بهدف الوصول إلى اتفاق تهدئة مؤقتة، والمقصود هنا رسم حدود الممكن والمتاح في مسار مفاوضات مستقبل غزة، التي يسعى الاحتلال وحلفاؤه إلى أن تحقق له ما عجزت الحرب عنه: تفكيك قدرة حماس والمقاومة.

لكن المقاومة، التي نجحت في تنفيذ عدة كمائن أوقعت قتلى وجرحى بالعشرات في صفوف الاحتلال، تعلن أن حقائق الميدان مختلفة كليًّا، وأن الاحتلال متى خاض معاركه على الأرض سيتكبّد خسائر. فالحرب هنا مختلفة كليًّا عن القصف الجوي، الذي لم يكن قادرًا على ضمان نصر أو سيطرة للاحتلال على الأرض.

ويبدو أن هذا ما يدركه الاحتلال وآليته العسكرية، التي باتت توظّف سلاح الجو والقصف المكثّف إلى جانب الحصار لتسليط ضغط مزدوج، ميداني على المقاومة، وإنساني على السكان، في محاولة لتليين الموقف التفاوضي الفلسطيني ودفعه للاستسلام لها.

لكن، مرّة أخرى، تكشف المقاومة أنها لم تنكسر في الميدان، ومازالت قادرة على إدارة حرب المدن باقتدار، بما يمنحها هوامش تفاوض تمكّنها من فرض شروط من موقع القوّة النسبية، لا الاستجابة لإملاءات بحجّة الضرورة الإنسانية.

فالمقاومة الفلسطينية تدرك طبيعة المرحلة التي باتت عليها المفاوضات غير المباشرة مع الاحتلال، سواء للهدنة أو لإنهاء الحرب، إذ تعلم جيدًا أنها أمام تشعّبات وعقبات عدّة، أبرزها يتعلق بانسحاب الاحتلال الجزئي والكامل، ومستقبل المقاومة وسلاحها، ومن سيتولّى إدارة القطاع. والتطوّرات الأخيرة تكشف أن من يملك القدرة على التأثير الميداني، هو من يملك هامشًا أوسع في صياغة الشروط التفاوضية.

ومع استمرار العمليات في جنوب القطاع، وتزايد خسائر الاحتلال، بات من الصعب تمرير الحلول التي تتجاهل مطلب الانسحاب الكامل. فالميدان، برمزيّته وتكلفته، يفرض نفسه كفاعل تفاوضي، وليس كعامل ضغط فقط.

وهذا المشهد المعقّد يفتح على جملة من الاحتمالات. أولها، إمكانية فرض تهدئة طويلة الأمد وفق شروط أقرب إلى موقف المقاومة، خاصة إذا ما استمر الاستنزاف العسكري، وهو ما سيمثّل دفعة في اتجاه إعادة الاعتبار للحق الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة

المشاركة في هذا المقال