Print this page

التقرير القطري للبنك الافريقي للتنمية: تونس وتعثر توظيف الإمكانيات

مرة أخرى، تأتي التقارير الصادرة عن مؤسسات مالية دولية

وإقليمية لتكشف عن عمق الأزمة التي يعيشها الاقتصاد التونسي، وآخرها كان التقرير القطري للبنك الإفريقي للتنمية الخاص بتونس لسنة 2025، والذي بيّن المفارقة العميقة التي يعانيها اقتصادنا. فرغم وجود مؤشرات تفيد بأن الاقتصاد يشهد تعافيًا ظرفيًا، فإن هذه المؤشرات ذاتها تكشف عن هشاشة هيكلية مستمرة.

ولعل أبرز مثال على ذلك ما تقدمه المؤشرات الخاصة بالتوازنات المالية، التي قد تبدو للوهلة الأولى إيجابية إذا اقتصرنا على قراءة الأرقام. لكن، وبمجرد التمعن أبعد من ذلك، نكتشف أن هذا التوازن تحقق نتيجة ضغوط واختلالات مالية أعمق.ضغط على السوق المالية المحلية وارتفاع لحجم الدين وتواصل سياسات التقشف.

فالصورة الكاملة التي يقدمها التقرير الأخير للبنك الإفريقي للتنمية، والذي قُدّم في مقر وزارة الاقتصاد والتخطيط، تتضمن هذه المفارقة: ظاهر الصورة يبدو إيجابيًا، أو على الأقل ليس سلبيًا أو كارثيًا، ولكن النظر في ما وراء الأرقام والبحث في تفاصيلها يكشف عن أزمة متخفّية.

فنسبة النمو المتوقعة للسنة الحالية، والمقدّرة بـ1.9%، بتحسّن بنصف نقطة عمّا تحقق في 2024، قد تعطي انطباعًا أوليًا بأنها رقم إيجابي يُظهر أن الاقتصاد في طريقه للتعافي واسترجاع محركاته، لكن التفاصيل التي يحملها التقرير، والتي تكشف عن محركات هذا النمو، تبيّن أن التحسّن ظرفي، وأن الأزمة الهيكلية للاقتصاد التونسي لا تزال قائمة.

فالنمو المتوقع للسنة الراهنة تقوده أساسًا الفلاحة وبعض الصناعات التحويلية، ما يعني أنه ليس نتاج ديناميكية إنتاجية أو عودة اشتغال روافع التنمية، بقدر ما هو نتيجة عوامل ظرفية لا نتحكم فيها، ولا تثمر عن نتائج اقتصادية مستدامة أو قادرة على خلق الثروة أو توفير مواطن شغل. وهو ما يتضح أيضًا في تقرير البنك، الذي خصّص حيّزًا لسوق الشغل التونسي ومعضلته، التي تتجلى في ارتفاع نسبة البطالة لدى الشباب الحامل للمؤهلات الجامعية إلى 23%.

وأزمة الاقتصاد التونسي لا تقف عند حدود سوق الشغل، بل تمتد إلى كل مفاصل بنية الدولة، وأبرزها منظومة المالية العمومية، رغم تسجيل تراجع في العجز من 7.6 % إلى 6.1 % من الناتج المحلي، وهو ما قد يرسم صورة مطمئنة للوهلة الأولى، قبل أن تتضح أدوات التحكم في هذا العجز، والتي كانت أساسًا عبر الاقتراض الداخلي الذي بات يمثل اليوم نسبة تتجاوز 53 % من إجمالي الدين العمومي.

هذا الدين العمومي، الذي بلغت نسبته اليوم 81.2 % من الناتج المحلي، كان ليكون تحت السيطرة لولا كونه في حقيقته لا يعكس توازنًا حقيقيًا، بل هو توازن مالي مصطنع، تم تحقيقه عبر ترحيل الأزمة وتأجيل انفجارها من خلال خيار مالي يمكن وصفه بأنه هندسة لتراكم التكاليف، تؤجل البحث عن حلول حقيقية في سبيل توازن هشّ غير قادر على الصمود.

وليس هذا فحسب، بل يشير التقرير أيضًا إلى عدم نجاعة السياسات المالية المُتبعة حاليًا من الدولة التونسية فيما يتعلق بالاقتراض الداخلي، وكيف أنها فاقمت الضغط على السوق المالية المحلية لتلبية حاجيات الدولة، رغم إدراكها لتداعيات هذا التعويل، وأولها تقليص حجم التمويل المتاح أمام القطاع الخاص.

تفاصيل عديدة وأرقام متنوّعة قدّمها تقرير البنك الإفريقي للتنمية في صفحاته الأربعين، تُشكّل، بتقاطعها، صورةً لمعضلة حقيقية تواجه الاقتصاد التونسي، تتجاوز تعثّره في الخروج من أزمته الهيكلية، لتتعلّق أساسًا بضعف القدرة على توظيف الإمكانيات والطاقات من أجل تحقيق انتعاش اقتصادي مستدام.

فما يقدّمه التقرير هو التناقض الصارخ بين مقدّرات البلاد التونسية البشرية والطبيعية، وبين ما حققته فعليًا، إذ لم تنجح في توظيف لا الرأس المال البشري، ولا العنصر البشري، ولا الثروات والموارد الطبيعية المتجددة، ولا استغلال شبكة العلاقات التي نُسجت خلال 68 سنة، ولا توظيف موقعها الجغرافي، ولا ما راكمته من خبرات في مجالات معينة.

معضلة يشير التقرير بشكل مباشر إلى أنها نتيجة غياب رؤية تنموية منسجمة، قادرة على الربط بين الإمكانيات وأدوات التفعيل، بين السياسة الاقتصادية والاختيارات القطاعية، بين الحوكمة والنتائج.

فالأزمة الاقتصادية ليست ناجمة عن غياب الموارد، بل عن تعطيلها. ليست المشكلة في أرقام العجز أو التضخم، بل في هشاشة خيارات السياسة الاقتصادية أمام ضغط التوازنات الظرفية. تونس تمتلك ما يكفي لتكون اقتصادًا ناشئًا وفاعلًا في منطق القيمة المضافة. ما ينقصها ليس الإمكانيات، بل القدرة على توجيهها ضمن رؤية شاملة تتجاوز المحاسبة التقنية، نحو هندسة تنموية تنطلق من الداخل، وتُبنى على أسس إنتاجية، عادلة، ومستدامة

المشاركة في هذا المقال