Print this page

في مخاطر تجريم السياسة

خلال السنوات القليلة الفارطة، يبدو أن وعيًا جديدًا تشكّل لدى طيف واسع

من التونسيين، يتجاوز الشعور التقليدي بخيبة الأمل في السياسات العمومية أو الاستياء من أداء بعض مؤسسات الدولة. إنه وعي أعمق، يقترب لدى البعض من القناعة بأن مؤسسات الدولة، كما تشتغل فعليًا اليوم، لم تعد تحافظ على الحدود الضرورية بين الفضاءات السياسية، والأمنية، والقضائية، بل تميل، بشكل متزايد، إلى توظيف هذه الفضاءات جميعًا ضمن منطق أحادي، هدفه ليس فقط فرض النظام، بل أيضًا ضبط التعبير السياسي ومحاصرته، وصولًا إلى تجريمه.

في هذا السياق، أصبحت ممارسة السياسة في تونس، خلال السنوات الأخيرة، أقرب إلى المغامرة التي قد تكلّف صاحبها كثيرًا، لا لشيء إلا لأنه اختار الاصطفاف خارج المسار الرسمي، أو عبر عن رأي مخالف، أو معارضة السلطة. اذ يخاطر بان يصيبه مااصاب سابقيه من صدور قرارات المنع من السفر، الإيقافات، التحقيقات، التتبعات التي يؤذن بفتحها بتصريحات رسمية وتُستكمل عبر منابر إعلامية يوالي بعهضا السلطة ويتقرب منها بالنيل من خصومها... كلها مشاهد باتت مألوفة، لكنها في جوهرها تعبّر عن تحول خطير في الوعي الجمعي للتونسين، اذ لم يعد يُنظر إلى الفعل السياسي كحق مدني مشروع، بل كملف قابل للمعالجة بأدوات أمنية وقضائية.

في هذا المشهد، لم يعد مستغربًا أن تُقدّم الإيقافات أو التتبعات ضد بعض المعارضين أو الناشطين على أنها «إنجازات سياسية»، دون مراعاة للفصل الطبيعي بين الوظائف/السلط المختلفة للدولة. ولم يعد مستغربًا أن تُقرأ المواقف السياسية من زاوية النوايا والخلفيات، لا من زاوية البرامج أو المضمون. لقد تمّ إفراغ العمل السياسي من محتواه المدني، ليُعاد تصنيفه في خانة الريبة أو الشبهة، لا باعتباره انحرافًا عن القانون، بل انحرافًا عن الاصطفاف الجماعي ووحدة الصف المرغوب فيها.

وللاسف آثار هذا التوجه لا تقف عند حدود النخب السياسية أو المعارضين. فالمواطن العادي، حين يرى ما يلاقيه السياسيون والنشطاء، قد يختار الانسحاب من الحياة العامة، ويفضّل التواري وراء الصمت، لا بدافع اللامبالاة، بل خوفًا من أن يُفهم تعبيره كموقف، وأن يُحسب الموقف كولاء، أو كخصومة، في فضاء بات ضيقًا على الحياد والتعبير الحر.

في مثل هذا المناخ، تزداد الضبابية بين الدولة التي يُفترض أن تكون حامية للحقوق، والدولة التي تُمسك بأدوات الرقابة والمساءلة دون ضوابط واضحة. ويصبح من الصعب التمييز بين المسارات القانونية المشروعة وتلك التي تُستعمل للتأديب الرمزي أو الردع السياسي. حين تختلط هذه الحدود، تنهار الثقة، ويتراجع الإيمان بإمكانية التغيير السلمي، ويبدأ التشكيك في نوايا كل إجراء، ولو كان سليمًا في ظاهره. وهكذا، يصبح الشك هو القاعدة.

هذا التحول في المزاج العام يبرز بوضوح في نسب المشاركة في الانتخابات، أو في ضعف التفاعل مع النقاشات العامة أو في الفتور الذي يحيط بأي ملف او حدث وطني او عام. المواطن الذي يشعر أن المجال العام لم يعد آمنًا أو نزيهًا، لا يندمج فيه. والاسوء انه لا ينسحب فقط من السياسة، بل من فكرة الدولة ذاتها كفضاء مشترك تُصاغ فيه المصلحة العامة بتعدد الأصوات لا بتجانسها القسري.

جزء من هذا التصور يتغذى من غياب رواية رسمية متماسكة وواضحة بشأن الإجراءات المتخذة ضد المعارضين، ومن ضعف في آليات التواصل المؤسسي القادر على التمييز بين المعارك القانونية المشروعة، والانزلاقات ذات الطابع السياسي. ويُعززه خطاب رسمي يميل أحيانًا إلى اعتبار النقد تهديدًا، والاختلاف خطرًا، والمعارضة اصطفافًا مع «الفساد» أو «المتآمرين»، دون أن يُقدم دليلًا يُقنع الرأي العام .

نتيجة هذا التراكمات شهد الفضاء السياسي تقلصًا غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة. ليست الأحزاب وحدها من تراجعت، بل السياسة نفسها كفعل ومجال ونقاش. ليفقد الخطاب السياسي نبرته، ويتحوّل النقاش العام إلى ممارسة حذرة، خافتة، يغلب عليها الخوف لا الطموح. لا لأن المجتمع خالٍ من الأفكار أو البدائل، بل لأن المناخ العام لا يتّسع لها. ليختار الكثرون الانسحاب، أو المشاركة الباهتة عبر اعادة صياغة مواقفها بلغة خالية من المعنى طلبًا للنجاة.

الأخطر من ذلك أن هذه الديناميكية تُنتج جيلًا جديدًا يرى في المشاركة العامة عبئًا، وفي التعبير السياسي مخاطرة، وفي الحياد فضيلة. جيلٌ ينشأ على فكرة أن السياسة لا تُمارس إلا في إطار الولاء، وأن النقد قد يُفضي إلى التهمة، وأن الفعل لا يُقرأ إلا من زاوية نواياه. هذا الجيل، حين يصل إلى سن المسؤولية، قد لا يجد في الدولة شريكًا في البناء، بل جهازًا يجب اتقاؤه، ومؤسسات يُفضّل الابتعاد عنها.

في ظل هذا الواقع، يتراجع الاهتمام بالشان العام لا فقط من الافراد بل من موسسات لدولة ذاتها التي يصبح الصراع السياسي أولوية عندها، فتختار عوضا عن التفرغ للإصلاح الاقتصادي، أو تعزيز الحوكمة، أو تحسين جودة الخدمات، ان تستنزف جهدها في إعادة ترتيب التوازنات السياسية عبر الأمن والقضاء. وهذه مفارقة قاتلة بالنسبة لنا في تونس، اذ نواجه أزمات اجتماعية واقتصادية متفاقمة، ننفق كامل جهدنا في إدارة الصراعات السياسوية، عوضا عن معالجة أزماتنا الهيكلية.

هذا التوجه قد يؤدي تدريجيًا إلى إفراغ المؤسسات من مضمونها، وتحويلها إلى أدوات تنفيذية تشتغل تحت الضغط السياسي، لا وفق منطق الاستقلال والتخطيط. ومع الوقت، تفقد هذه المؤسسات قدرتها على لعب أدوارها الأصلية، وتتحول إلى آليات لتكريس الهيمنة، لا لتأمين التوازن.

ما تحتاجه تونس اليوم ليس مزيدًا من الضبط الأمني أو الإجراءات الزجرية، بل إصلاحًا عميقًا للثقافة السياسية الحاكمة، يقوم على إعادة الاعتبار للفعل السياسي، كمساحة مشروعة ومحمية ومفتوحة أمام الجميع. فوحده هذا المسار يمكن أن يعيد للناس ثقتهم في الدولة، ويجعل من المؤسسات فضاءات عمل لا أدوات رقابة

المشاركة في هذا المقال