ومحدودية الخيارات المتاحة ، في ظل مخاوف من أن يتسع نطاق هذه المواجهات لتجرّ إليها أطرافًا أخرى، أبرزهم الولايات المتحدة الأمريكية، والتي وإن لم تشارك بشكل مباشر فيها إلى غاية الآن، فقد قدمت دعمًا دفاعيًا واستخباراتيًا للاحتلال ووفرت له مظلة للقيام بعملياته، فإنها قد تنخرط بشكل عسكري صريح ومباشر في هذه المواجهات التي تقترب يومًا عن يوم لتكون حربًا شاملة.
فالأزمة الراهنة، التي كشفت عن تجاوز حدود الاشتباك التقليدي بين إيران والاحتلال، فرضت على دول المنطقة والقوى الإقليمية والدولية أن تفتح النقاش وتبحث في الفرضيات الممكنة التي تنتقل بالمواجهة إلى أبعاد جديدة، أبرز عناوينها أيّ خيار تتخذه واشنطن، والقصد هنا كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع التطورات، وهل ستراجع مقاربتها في التعاطي مع المشروع النووي الإيراني على أنه ملف تفاوضي، وما يحدث اليوم هو مساعٍ لتحسين شروط التفاوض لتخدم رؤية واشنطن وحليفها في المنطقة، أم أن المشروع النووي الإيراني والبرنامج الصاروخي باتا تهديدًا يستوجب تدخلًا عسكريًا مباشرًا منها.
فرضيتان رئيسيتان يُختزلان في القول بأنّ إما أن تتدخل أمريكا عسكريًا للقضاء على البنية التحتية النووية الإيرانية، أو أن تلتزم موقعها الراهن الذي يمكن فهمه من خلال ما تقدمه من دعم استخباراتي ودبلوماسي للاحتلال، على أنه الخيار الممكن الوحيد لها في ظل معادلات إقليمية ودولية متحركة، تسعى الولايات المتحدة إلى أن تستفيد منها دفعًا للأقصى دون المغامرة بتفجيرها.
إذ تكشف تقارير وسائل الإعلام الأمريكية بشأن مناقشات مجلس الأمن القومي الأمريكي، أو التسريبات المتعلقة بتقييم جاهزية القوات الأمريكية، أن إدارة ترامب تحرص على أن توجه للإيرانيين رسالة واضحة، وهي أنها تتعامل بجدية مع فرضية توجيه ضربة محدودة ومركزة تستهدف المنشآت النووية الإيرانية المحصنة، وتعزز هذا الإيحاء بمراجعة انتشار قطعها العسكرية سواء في الخليج أو في البحر الأبيض المتوسط، في رسالة تتجاوز مجرد إعلان عن دعم للاحتلال وتوفير حماية له، لتكون تلويحًا بأن أمريكا قررت تغيير قواعد تعاطيها مع إيران، والانتقال بمشروعها النووي من خانة ملف تفاوضي إلى خطر استراتيجي يستوجب الرد والردع.
تلميح بلغ أقصاه أول أمس الاثنين، حينما غادر ترامب اجتماع قمة السبع في كندا ودعا إلى انعقاد اجتماع لمجلس الأمن القومي الأمريكي، الذي انعقد تحت تأثير تدوينة نشرها ــ ترامب ــ يطالب فيها بإخلاء طهران، قبل أن يقول لاحقًا إن التدوينة كان المقصود منها الحرص على سلامة الإيرانيين لأن الاحتلال لن يتوقف عن التصعيد.
هذا التلاعب، الذي يبدو أن إدارة ترامب تتعمده لدفع الإيرانيين إلى العودة للتفاوض من موقع ضعف يسمح لإدارته وللاحتلال من خلفه بتحقيق أهدافهم، وهي تدمير المشروع النووي الإيراني وإنهاء برنامجها الصاروخي، كشف بشكل غير متعمد عن أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتعرض إرادتها لضغط من حكومة الاحتلال ومحاولة لتوجيهها عبر إقناعها بأن إيران في أضعف حالاتها، ويمكن لأمريكا أن توجه ضربة قاضية وتسوّق لنصر خاطف، تدرك أن الصورة أكثر تعقيدًا من محاولة تبسيطها واختزالها في التفوق العسكري الأمريكي وفي قدرته على توجيه ضربات موجعة.
فانخراط أمريكا بشكل مباشر في الحرب، لن تكون له تداعيات على منطقة الشرق الأوسط فقط، بل على الداخل الأمريكي، الذي تبرز فيه اليوم شريحة واسعة ممن يتبنون شعار «أمريكا أولًا» بشكل كلي غير مجزأ، هؤلاء هم ناخبو ترامب، وهم أنصاره الذين يرفضون أن تنجر بلادهم إلى حرب لا تخدم مصالحهم، خاصة وأن هذه الحرب التي يريد الاحتلال جرّ أمريكا إليها، تحمل مخاطرة عالية بأن تجر منطقة الشرق الأوسط إلى فوضى ستؤثر بشكل مباشر على سوق الطاقة وأسعاره، وهو ما يعني تداعيات اقتصادية مباشرة على حياة الأمريكيين.
وليس هذا فقط ما قد يدفع إدارة ترامب إلى التريث قبل اتخاذ قرار الانخراط عسكريًا في الحرب، فما تعلمه إدارته أن الرد الإيراني المحتمل وموقف قادتها، الذي تغذيه الإيديولوجيا أو اعتبارات السيادة، لن يكون من بين خياراته المتاحة تجاهل ضربة أمريكية مباشرة تستهدف مشروعها النووي أو محاولة إضعاف النظام تمهيدًا لإسقاطه من الداخل. ففي مواجهة سابقة لم تصل بعد إلى هذا التعقيد الاستراتيجي بالنسبة لإيران، لم تتأخر الأخيرة عن الرد وإن كان ضمن حدود قواعد الاشتباك المتعارف عليها، فقد سبق أن أظهرت طهران قدرتها على الرد عبر منظومة حلفائها الإقليميين، من ذلك استهداف القواعد الأمريكية في العراق، وهي اليوم ألمحت إلى أن خيار غلق مضيق هرمز، الذي تمر من خلاله أكثر من 20 % من إمدادات الطاقة، مطروح.
خيارات عدة، من بينها استهداف القواعد الأمريكية أو ضرب حقول النفط في المنطقة وغلق ممر بحري يستأثر بخُمس الإنتاج الدولي، قد تكون طُرحت على طاولة النقاش من قبل الإدارة الأمريكية، التي تدرك أنها بخيار التورط الصريح والمباشر، ستغامر بجرّ المنطقة إلى توتر غير مسبوق، حتى وإن نجحت في القضاء على المشروع النووي الإيراني أو إسقاط نظامها، فإنها ستكون أمام تداعيات هذه العملية.
تداعيات خطيرة ستطال المنطقة، إن تم استهداف المنشآت الإيرانية بضربة عسكرية أمريكية، هذا ما تدركه الإدارة العميقة الأمريكية، التي ترى أن العمل العسكري، وإن نجح في الإضرار بالبنية التحتية النووية لإيران، فإنه في المقابل قد يمنح النظام الإيراني فرصة لإعادة ترتيب الداخل، وتعبئة الرأي العام خلف خطاب «المظلومية القومية»، الذي قد يعيد النظر في العقيدة النووية ويتبنى خيار امتلاك سلاح ردع نووي، وإن بعد سنين.
ارتدادات هذا الخيار العسكري ستكون أشد، خاصة إن وُظّفت من قبل النظام الإيراني في سردية «الاستهداف الغربي»، والأمريكي خاصة، في ظل متغيرات دولية يمكن لإدارة ترامب أن تتجاهلها، ولكن البيروقراطية الأمريكية لا تستطيع، لأنها تدرك أنه في ظل خيار أمريكي أحادي غير مدعوم دوليًا، قد يضر بالمصالح الأمريكية على المدى المتوسط والبعيد.
لكن هذا لا يعني أن الخيار بسيط وسهل، وأن إدارة ترامب أو الدولة العميقة في أمريكا قد اتخذت خيار عدم التدخل، والاكتفاء بتقديم دعم دفاعي واستخباراتي ودبلوماسي للاحتلال في مواجهته مع إيران. فكلاهما يدركان أن فشل الاحتلال في تحقيق أهداف عملياته العسكرية، رغم الدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي توفره واشنطن، قد تكون له أيضًا نتائج وخيمة، سواء انتهت المواجهة اليوم أو بعد أمد طويل. فالفشل في كبح المشروع النووي الإيراني عسكريًا أو دبلوماسيًا سيقود عاجلًا أو آجلًا إلى تغيّر التوازنات والتحالفات في المنطقة، ويعمّق أزمة الثقة بين واشنطن وحلفائها الإقليميين، الذين قد يستنتجون أن مظلة الردع الأمريكية محدودة الأثر والتأثير. وهو ما قد يولد موجة من إعادة التموضع، وبناء التحالفات.
أي أن صناع القرار الأمريكيين اليوم أمام معضلة لا تكمن في المفاضلة بين خيارين، بل في كيفية إدارة معادلة إقليمية دقيقة ومعقدة، بات معها أي تدخل أمريكي مباشر يمثل تهديدًا باستدراج المنطقة لحرب واسعة النطاق، وأي امتناع قد يؤدي إلى انهيار نظام الردع الذي قامت عليه استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط منذ سبعينيات القرن الماضي.
معضلة تواجهها واشنطن في ظل تعقيدات أشمل في المنطقة، التي تبين منذ 7 أكتوبر 2023 أن بنيتها الأمنية الإقليمية في طور إعادة التشكيل، وهو ما يعني أن الشرق الأوسط يقف اليوم أمام تحوّل استراتيجي قد يعيد رسم خريطته السياسية والعسكرية، محوره الأبرز: أنه وإن انتصر الاحتلال وتدخلت أمريكا عسكريًا، فإن ما بعد ذلك سيكون «ما بعد توازن الردع الأمريكي»، فدول المنطقة ستدرك حجم أزمتها ومعضلة تحالفاتها غير المستقرة، التي انتفت فيها الخطوط الحمراء لصالح طرف وحيد، وهو الاحتلال، الذي لا يُعلم من هو هدفه القادم