Print this page

قافلة الصمود لكسر الحصار عن غزة: مأزق النظام العربي وخوفه من حراك الشعوب

لم تعد «قافلة الصمود» حدثًا عابرًا في المشهد العربي، بل أصبحت لحظة كثيفة الرمزية

تكشف حجم التناقض بين ضمير الشعوب وخطاب الأنظمة. فهذه القافلة التي انطلقت من تونس بمبادرة مدنية لدعم الفلسطنين في غزة التي تواجه حرب ابادة جماعية، تجاوزت حدود الجغرافيا وعوائقا لتعيد تشكيل المجال السياسي والشعبي و تعيد الاعتبار لفعل التضامن بين الشعوب العربية وعمق اثاره التي تنجرح في اطار « مقاومة ناعمة».

المفارقة التي كشفتا القافلة بين موقف رسمي وموقف شعبي كشفت عنها منذ لحظة الانطلاق القافلة التي كشفت عن تناقض المواقف الرسمية والشعبية في دول العبور، ففي الوقت الذي استُقبلت فيه القافلة بترحاب شعبي واسع أينما حلّت، يعكس حجم الانخراط العاطفي والمجتمعي بالقضية الفلسطينية، كانت المواقف الرسمية العربية باهت، فهي وان لم تكن عدائية صارحة فقد كشفت عن عداء ضمني للقافلة لما تمثله من حرج لها.

ففمن وجهة نظر هذه الانظمة التي عبر عنها راعها الاعلامي والدعائي باتت القافلة بذاتها اشكالا لما تمثّله من رمزيات مكثفة من بينها إحياءُ لفعل البتضامن الجماعي المتحرر من القرار السياسي، ليذكيرٌ الجميع بان التضامن الشعبي لا يحتاج إذنًا من الانظمة ولا يخضع لحسابات توازن القوى، بل يحتكم للارتباط الوجداني بين شعوب المنطقة وقدرتها على الانتصار لقضايها.

مازق قد يكون الموقف المصري الاكثر تعبير عن هذا، بموقف رسمي ضبابي لا يعلن القبول ولا الرافض صراحة، فهي تترك القافلة والمشاركين فيها في حيرة فلا هم يقنوا من حصولهم على إذن رسمي بالمرور إلى غزة عبر معبر رفح، ولا علموا برفضهم الصريح، فالقاهرة اعتمدت على ان تجعل المشهد ضبابي مع التزامها الصمت رسميا ، فهي وان لم تُصدر قرارًا بالمنع صريح ومباشر، فقد اكتفت بالتلميح الى الاجراءات والتراتيب الديوانية للدخول الى الاراضي المصرية وترك مصيرها معقلا بدى احترام «الإجراءات القانونية»، اي تركها معلقة في منطقة رمادية لا حسم فيها ولا وضوح. وكأن السلطة المصرية تريد أن تقول «لا» دون أن تتحمّل مسؤولية رفضها لموجة التضامن الشعبي.

هذا الخيار الرسمي اللذي رافقته حملات إعلامية وداعائية تشكّك في دوافع القافلة وفي افرادها ، وتلمّح إلى وجود أجندات سياسية تعادي مصر خلف القافلة، وهو ما يكشف عن محاولة لإفراغها من بعدها الأخلاقي والإنساني، وإعادة تأطيرها سياسيا بما يسمح بادراجها في منطق السيادة والرقابة الأمنية.

وهذا ما يتكشّف عن مأزق النظام العربية التي كشفت عن خوفها ليس من القافلة وما تحمله من معنى رمزي. لتكشف ان الأنظمة العربية، لا تخشى القافلة ان تعلق الامر بجهدها في تمرير المساعدات، بل تخشاها لأنها تخشي ان تصبح حالة معدية تنتقل الى شعوب المنطقة وبالتالي دفع الشعوب الى حراك غير خاضع للرقابة ولا لضبط الانظمة.

وهو ما يجعل قافلة الصمود من وجهة نظر الانظمة « جسم غريب» لا مكان له في منظومة إقليمية تخشي التضامن الشعبي اكثر من خشيتها من مخططات الاحتلال، وهو ما يدفعها الى ان تحيط موقفها الرسمي بالغموض، الذي لا يكشف فقط عن هشاشة الانظمة العربية بل عن ان هذه الانظمة اهش من تأطير حراك تضامن عربي، رغم هالتها كانظمة ودول يسيرها المنطق الأمنية الذي يرى في كل مبادرة شعبية تهديدًا ضمنيًا لاستقرارها الرمزي، باعتبار ان هذه المبادرة تفتك منها الحركة والمعنى.

بهذه المقاربة تتعاطي الانظمة العربية مع قافلة الصمود على انها فعل سياسي، يذكّر بالغياب الرسمي ويعريه، وهو ما قد يمثل خطرا على شرعيتها ومشروعيتها الامر الذي يدفعها الى ان تبحث عن اعادة ترتيب المشهد وتشكيل الضمير الجمعي بحملة دعائية تنزع عن القافلة معانيها الانسانية والاخلاقية وتلقي بها في خانة التوظيف السياسي.

قافلة لم تصل بعد إلى الحدود المصرية والا الى الحدود مع غزة، لكنها نحجت في الكشف عن عمق المفارقة بين المد الشعبي والرسمي بين الخطاب والممارسة، فان كانت الانظمة نُدين الاحتلال في العلن، فانها نضيّق على المتضامنين بطرق مختلفة ترفع الشعارات المناصرة للقضية، ولكناه تخشي اي تجسيد شعبي لهذه الشعارات، وهو ما يجعل من القافلة ااختبارًا للأنظمة والشعوب.

لكن عرغم هذه الضبابية في الموقف الرسمي فان الثابت اليوم ان قافلة الصمود نحجت في ان تحي سؤال موقع فلسطين في الوعي العربي، وفي الكشف عن حجم الهوّة بين الشعوب وأنظمتها الرسمية وسائلت الجميع أخلاقيًا عن معنى التضامن والانتماء والسيادة ان كانت تؤدي الى تبرير الحصار ومنع التضامن .

قافلة الصمود وان كانت مصيرها اليوم معلّق بموقفا الانظمة الرسمية الا انها أثبتت أن التضامن الشعبي لا يزال ممكنًا، وأن الفعل الرمزي الصغير قادر على فضح هشاشة السلطة، وإرباك خطابها الدعائي. إنها تذكير بان التضامن مع فلسطين ليس شعارا بل التزامًا، وبأن الصمت لم يعد ممكنًا حين يصبح الحصار موقفًا رسميًا مقنّعًا

المشاركة في هذا المقال