Print this page

إصلاح الإدارة التونسية: في غياب خطة واضحة هل تكفي الشعارات؟

يقوم الخطاب الصادر عن رئاسة الجمهورية، على عبارات من قبيل «تطهير الإدارة»

ومحاربة الفساد داخلها»، وتكرار الأمر بات محفّزًا على تساؤل مشروع عمّا إذا كانت هذه التصريحات الموجّهة إلى رئاسة الحكومة تعبّر عن انطلاق مشروع إصلاح الإدارة الذي طال انتظاره، أم أنها امتداد لخطاب سياسي يُنتج الشك والاتهامات في حقّ الجهاز الإداري وموظفيه.

ففي الوهلة الأولى، قد تبدو هذه التصريحات وكأنها إعلان عن مسار إصلاحي حقيقي، خاصة في ظل ما تعانيه الإدارة التونسية من ترهّل مزمن، وتضخّم بيروقراطي، وتراجع في الأداء والنجاعة. لكنّ هذه النوايا، إن لم تُترجم إلى خطوات مؤسساتية واضحة ومُعلنة، تبقى مجرّد تصريحات موجّهة تُدين الإدارة وتُحمّلها مسؤولية التعطيل، بل وتُبرز عدم انسجامها مع توجّهات الرئيس، بدل أن تُعالج مكامن الخلل فيها.

وهو ما قد يوحي بأنّنا إزاء اختزال لمفهوم الإصلاح الإداري، ليرتبط فقط بمحاربة الفساد أو التخلص ممن لا يُظهرون ولاءً لمشروع السلطة. وهذا ما قيل بشكل مباشر في أكثر من مناسبة، حيث دعا الرئيس رئيسة الحكومة إلى عدم التواني في «تطهير الإدارة» من كل من يعطّل سيرها ومصالح «الشعب» أو له ارتباطات بلوبيات فساد، وتعويضهم بشباب «متحمّس» و»نظيف».

هذا التصريح المباشر من رأس السلطة التنفيذية بنيّة إحداث تغييرات في جسم الإدارة، سواء عبر إعفاءات أو انتدابات جديدة، يتزامن أيضًا مع إعلان عن التوجه لإعادة هيكلة بعض المؤسسات والمنشآت العمومية، باعتبار أنها عبء على المجموعة الوطنية ولا تعود عليها بأي فائدة تُذكر.

كل هذه التحركات، للأسف لا يمكنها أن توضّح ملامح مشروع إصلاحي جاد، بل هي تُحدث ارتباكًا لدى المتابع، وتدفعه إلى التساؤل عن حقيقة ما يجري وإن كنا أمام إصلاح إداري فعلي؟ أم أننا إزاء إعادة توزيع للمواقع داخل الإدارة بما يخدم السلطة السياسية؟

الجواب هنا لا يمكن أن يكون يسيرًا أو مباشرًا ما لم يُحدَّد بوضوح المقصود بـ»الإصلاح الإداري». هل هو مكافحة للفساد؟ أم تعزيز للولاء داخل جهاز الدولة؟ أم هو مسار معقّد يتطلب رؤية شاملة تبحث عن مكامن الخلل الحقيقي في الإدارة وضعف الحوكمة وتعقيد المسارات ونقص الرقمنة والتكوين المستمر… إلخ.

الواضح أنّ هذه العناصر الجوهرية غائبة تمامًا عن الخطاب الرسمي، الذي لا يقدّم تصورًا متكاملًا لخطة الإصلاح. كما لا يفتح المجال لنقاش مجتمعي أو لحوار مع الفاعلين في المرفق العمومي من نقابات، وموظفين، وهيئات رقابية. وهو ما يطرح إشكالًا لأنّ التاريخ وتجارب الإصلاح المقارنة أثبتت أن لا إصلاح ممكنًا دون تشاور واسع وشامل.

فمن دون هذا التمشي قد تتعزّز المخاوف من تحوّل شعار «تطهير الإدارة» إلى أداة سياسية لتصفية الحسابات، أو لفرض الولاء داخل المؤسسات، في تناقض صارخ مع مبادئ الحوكمة الرشيدة، والشفافية، واستقلالية المرفق العمومي. حينها، يصبح السؤال الحقيقي: هل نحن بصدد إصلاح للإدارة، أم بصدد تدجينها؟

ففي ظل غموض خطاب السلطة وعدم تحديد طبيعة الإصلاح الذي يلوح في الأفق، إن كان يقتصر على تغيير في تركيبة الإدارة عبر إحلال وجوه جديدة مكان أخرى؟ أم هو إعادة هيكلة تقنية وتنظيمية؟ أم أنّ الطموح يتجاوز ذلك نحو مراجعة أعمق للعقيدة الوظيفية للإدارة ولدورها في الدولة والمجتمع؟

فالمعضلة في تونس لا تتعلّق فقط بضعف الكفاءات أو بؤر الفساد، بل بمنظومة إدارية متقادمة، متضخّمة، غير منسجمة، ومفتقرة لثقافة المحاسبة. الإدارة التونسية التي شكّلت لعقود مرآة لعلاقة الدولة بمواطنيها، تعاني اليوم من أزمة ثقة مزدوجة: المواطن يشكو من بطء الإجراءات، وتضارب الصلاحيات، وغياب الشفافية، والموظف يشكو من انعدام الحوافز، وغياب المعايير الموضوعية في الترقية، وهيمنة منطق الولاء على منطق الجدارة.

ولتجاوز هذا وإصلاح الأمر، لابد من خطوة شجاعة وخطة شاملة تتضمن رقمنة شاملة، إصلاح قانون الوظيفة العمومية، وتفعيل آلية التكوين المستمر، ربط الترقية بالمردودية، وتفعيل اللامركزية. وقبل كل شيء، رؤية سياسية واضحة ومناخ من الثقة.

فالإصلاح الإداري لا ينجح بإعلان النوايا ولا بشعارات التطهير، بل حين تكون أهدافه تنموية واضحة، ولا يقوم على منطق العداء السياسي

المشاركة في هذا المقال