Print this page

الدعوات إلى التوحيد والعمل المشترك: بين خطاب النوايا واستحقاقات الفعل

تتوالى في المشهد السياسي التونسي دعوات تصدرها أحزاب المعارضة.

أبرز ما تطالب به هذه الأحزاب التقارب والذهاب إلى عمل مشترك تتوحد فيه الصفوف، إما عبر لقاء وعمل مشترك أو تشكيل جبهة وطنية قادرة على استعادة التوازن السياسي للبلاد.

من ضمن هذه الدعوات ما صدر أخيرًا عن الأمين العام لـ«حزب العمال» حمة الهمامي في حواره مع وكالة «الأناضول»، أو تلك الصادرة عن «حزب آفاق تونس» في بيانه الأخير. وتتواتر في الخطاب السياسي مرة أخرى الدعوة إلى توحيد الصف والعمل من أجل إيجاد قوة سياسية على الأرض يمكنها أن تعيد التوازن، لكن ذلك يبقى على مستوى الخطاب والنوايا التي لا ترافقها خطوات عملية.

خطاب يكشف عن أن جزءًا من القوى السياسية المعارضة باتت تستبطن أهمية أن تُنهى حالة التشتت التي تضعفها وتجعلها غير قادرة على تعبئة الشارع أو التأثير في مجريات الأحداث، أي أنها أدركت أن من بين نقاط ضعفها امتدادها في الشارع وقدرتها الضعيفة على التعبئة والحشد.

النوايا أو إدراك الواقع لا يعني أننا إزاء تحول نوعي في استراتيجيات هذه الأحزاب أو في طابعها، ناهيك عن تغيير موازين القوى. نحن إزاء دعوات لا زالت تحمل في طياتها إرث الماضي الذي أفشل دعوات سابقة صدرت عن عدة قوى وأحزاب، تعذر عليها أن تنتقل بدعواتها إلى مرحلة المبادرة السياسية القادرة على اختراق العزوف الشعبي والانقسام السياسي بتقديم عرض سياسي يحقق ثلاثة عناصر أساسية.

هذه الدعوات المتكررة والمتعددة المصادر، حتى وإن كانت تعبر عن التقارب المشترك في التقييم بين هذه القوى السياسية بخصوص تحديد طبيعة مخاطر المرحلة الحالية وآفاقها، مع سعي ـ لا يزال جنينياـ لهذه الأحزاب لمغادرة مربع الانكفاء ورد الفعل، الا أنها ووفق السياقات الراهنة التي صاحبت صدورها، تظلّ محكومة بإرث ثقيل من الانقسامات الأيديولوجية والعداوات القديمة والتجارب الفاشلة، مما يجعل أي تقارب بينها هشًّا ومفتقرًا إلى العمق الاستراتيجي اللازم لتشكيل كتلة أو جبهة تاريخية جديدة.

هذا يعني أنه، لضمان نجاح دعواتها للتوحيد والعمل الجبهوي، على قوى المعارضة وأحزابها أن توفر قبل ذلك الشروط الموضوعية للنجاح، والتي من بينها أن يكون العرض السياسي القادم قادرًا على حشد التونسيين خلفه، وهذا يرتبط بمدى قدرتها على التجدد والقطع مع الصورة النمطية التي ترسخت في أذهان جزء من التونسيين عن طبيعة هذه اللقاءات والتحالفات والغاية منها. ثانيها أن تنطلق من تقييم ذاتي لتجارب الماضي ونقهاد موضوعيا. ثالثًا تحديد طبيعة المرحلة التي نعيشها وكيفية ادراة المرحلة القادمة.

إن الشروط الموضوعية لنجاح أية مبادرة سياسية في تونس، في ظل السياق الراهن يتطلب لتحقيقه مراجعة نقدية صريحة للتجربة السابقة، على مستوى البرامج والتحالفات والممارسات. أي أن تدعو الأحزاب إلى الوحدة دون أن تقيم تجاربها السابقة، وأن تعترف بمسؤوليتها وأخطائها إذا وجدت، حتى تتمكن لاحقًا من التوجه الى التونسيين وطلب ثقتهم.

دون هذه الخطوة التي تهدف إلى قيام كل طرف بكشف حسابه السياسي والأخلاقي، لن تكون لهذه القوى أية قدرة على تسويق مبادرتها أو تحالفها على أنه البديل، وسيستقبلها جزء من التونسيين بالنقد وخشيتهم من فرضية تكرر تجارب الماضي. ودون خطوة المصارحة وتحمل المسؤولية ستظل هذه القوى والأحزاب رهينة حالة الإنكار التي أدت بها سابقا (الأحزاب) إلى الفشل.

هذا بالاضافة الى أن الوحدة لا تُبنى على مجرد الاتفاق على رفض السلطة الحالية، بل على قاعدة مشروع بديل واضح ينبثق من مراجعة ذاتية نزيهة، تسمي الأخطاء بأسمائها وتقطع بصفة جدية مع منطق المحاصصة والتموقع والأخطاء السابقة.

وحتى تكون لهذه الجبهة المنشودة أو العمل المشترك واللقاء الوحدوي آفاق مستقبلية لا بد لها أن تنفتح على القوى الاجتماعية الحية، من نقابات ومنظمات ومبادرات مدنية، بدل أن يظل تحاورها مغلقًا بين نخب حزبية فقدت الكثير من شرعيتها. إن الخروج من الدائرة الضيقة للمناكفات يتطلب الالتحام بالمطالب الاجتماعية ووضع سياسات بديلة في الاقتصاد والتعليم والصحة والعدالة تكون معبرة فعلاً عن اهتمامات المواطن لا عن هواجس الأحزاب.

شرط آخر لنجاح هذه الدعوات وهو قدرة أصحابها على تجاوز الانقسامات الأيديولوجية دون التفريط في المبادئ وتجاوز الاستقطاب الهوياتي الذي ظل لعقد كامل يغذي صراعات الطبقة السياسية وانقسامها وانفصالها عن النخبة وعن الشارع، من منطلق أن العمل الجبهوي المشترك ليس عملا يهدف الى تجميع المتشابهين، بل لتجميع مختلفين يتقاطعون في نقاط محددة وأهداف بعينها، يمكنهم من خلالها العمل المشترك على إدارة الاختلاف ضمن أفق مشترك، لا يلغي خلافاتهم ولا صراعاتهم، ولكن يؤسس لكيفية إدارتها.

وهذا يعني ان اطلاق الأحزاب لدعوات الوحدة والتجميع ليس كافيا، بل انه عليها أن تبرهن للمجتمع عن نضجها وتعلمها من أخطائها وأنها تمتلك تصورا عمليًا للمستقبل لا يقتصر على مواجهة السلطة، بل يؤسس لنظام ديمقراطي متجذر، تتصارع في أطره التيارات وتتنافس دون الذهاب إلى القصووية والحدية تجاه الآخر.

بامكان القوى التي تملك الشجاعة على نقد الذات، وابتكار البديل، وحدها أن تفتح أفقًا جديدا في زمن سياسي مأزوم.

المشاركة في هذا المقال