Print this page

«فاجعة المزونة»: جـرس الإنـذار

لازالت معتمدية المزونة من ولاية سيدي بوزيد تعيش على وقع فاجعة سقوط جدار المعهد الثانوي

الذي اسفر عن مقتل ثلاثة تلاميذ وإصابة تلميذين آخرين، لتكتمل اركان المأساة التي عاشتها الجهة ومعها كامل التراب التونسي الذي صدمته المفارقة المتمثلة في ان الفضاء التربوي يفترض فيه أنه يوفر الأمان والمعرفة لرواده لا الاهمال والتقصير الذي يؤدي الى الموت.

هذه الحادثة، وإن بدت في ظاهرها نتيجة انهيار جدار معزول، هي في جوهرها تعبير صارخ عن انهيار أعمق، يضرب مرتكزات المدرسة العمومية التونسية ويكشف عن هشاشة جدرانها المادية والمعنوية، لتكشف عن عمق الازمة التي شملت مختلف منظومتنا العمومية التي طالها الإهمال، وانشغلت عنها السياسات العمومية.

ذكّر سقوط جدار المعهد الثانوي بالمزونة مختلف التونسيين بواقع المدرسة العمومية -سيما في الجهات الداخلية - وتدرجها لتصبح فضاءات هشّة تتداعى فيها الجدران وتنهار الأسوار ويتاكل الأثاث وتتآكل معه كرامة التلميذ والمربّي على حدّ سواء. لتعلن عن نهاية زمن المدرسة العمومية وما مثلته من رمزية لدى التونسيين من حلم ومحرّك اجتماعي يدفع في اتجاه تحسين حياتهم وينبئ عن اننا امام خطر ان تصبح المدرسة العمومية، خاصة في المناطق الداخلية، عنوانًا للفقر والتهميش وغياب الحدّ الأدنى من مقومات السلامة والكرامة.

تونس التي كشفت بعد الاستقلال عن طموح غير معهود في المجال التربوي، بتعميم التعليم، وتشييد آلاف المدارس وتوطين العلم والمعرفة، باتت اليوم امام حقيقة صعبة وهي الكلفة الباهضة للاصلاح الجذري والشامل الذي تاخر طويلا.

تعيش البنية التحتية للتعليم العمومي او اية منظومة عمومية اخرى منذ تسعينيات القرن الماضي، على وقع التراجع والتدهور الذي برزت مؤشراته في تراجع جودة الخدمات العمومية نتيجة تراكم السياسات التجميلية وغياب الاستراتيجيات الهيكلية، لنصل اليوم الى هذا الوضع الكارثي الذي يمكن اختزاله في صور لمدارس متداعية للسقوط ومرافق مهترئة ونقص في الاطار العامل في قطاع يقدم خدمة لاكثر من 2.5 مليون تلميذ (بين ابتدائى واعدادى وثانوي).

بلوغنا هذه الوضعية لم يكن مفاجئا أو غير طبيعي بل هو نتاج لتراكم كل عناصر الازمة من غياب إرادة سياسية وضعف ثقافة الحوكمة الرشيدة اللتين نجد في تقرير دائرة المحاسبات لسنة 2022 تجسيدا لهما في النسبة المخصصة من ميزانية وزارة التربية للبنية التحتية (صيانة ومشاريع جديدة) والتي لا تتجاوز 5 % من مجمل نفقاتها التي تستأثر بها الأجور والتصرف الإداري. وهذا كاف ليبين ان الأولويات فيها تغليب للحسابات المحاسباتية على الخيارات الاصلاحية والاجتماعية.

ما يزيد المشهد قتامة، ما يعكسه هذا التمشي من قبل السلطات من لامبالاة مؤسساتية تجاه المدرسة كمرفق عمومي يمثل فضاء لإنتاج المواطن. هذا المرفق بات اليوم مهددا بالإهمال وبتخلّى الدولة عن التزاماتها الاجتماعية والأخلاقية تجاهه وتجاه الأجيال القادمة رغم التنصيص على ذلك في دستورها الذي اقر بان مجانية التعليم وجودته حق دستوري للجميع.

مأساة سقوط سور معهد المزونة لا يجب ان تكون حدثا عابرا او مختزلا في لحظات الحداد والحزن، او ان يستهلك كخبر متفرق كما تنسى غيره من الاخبار، بل يجب ان ندرك ان هذه المأساة جرس إنذار ودعوة صريحة الى فتح نقاش وطني شامل وعام حول المرفق العمومي وعن المسؤلية السياسية والمجتمعية وعن كيفية انقاذ مستقبلنا ومستقبل الاجيال القادمة وان تكون خطوتنا الاولى النقاش بشان مصير المدرسة العمومية والحاجة الملحة لإصلاحها لا على قاعدة الترميم المؤقت، بل انطلاقًا من رؤية عميقة تؤمن بأن المدرسة ليست عبئًا ماليًا، بل استثمارًا في مستقبل الوطن.

انّ الإصلاح المنشود لا يمكن أن يكون تقنيا فقط، بل هو أولا اصلاح سياسي ومجتمعي وثقافي، يتطلب تشريعات صارمة تفرض التدقيق الدوري في متانة الفضاءات التربوية، وتفعيل دور الجماعات المحلية والمجتمع المدني في صيانتها.

لقد آن الأوان للكفّ عن التعامل مع التعليم كملف موسمي، يفتح عند وقوع الكوارث فقط. إن مأساة المزونة ليست سوى عرض لمرض مزمن، لا يعالج إلا بإرادة سياسية تعيد رسم الأولويات الوطنية، فالمدرسة ليست مكانا للدرس فقط، بل هي شرط للعدالة ومرآة للمساواة ومحرّك لكل إصلاح تنموي. إذا لم نحم المدرسة لن نحمي الوطن.

 

المشاركة في هذا المقال