Print this page

وفاة ثلاثة تلاميذ جراء سقوط جدار معهدهم عليهم: وتتكرر الفواجع دون أن نتعظ

وكأن فاجعة المزونة لم تكن كافية لتُبين هول الخلل الذي أصاب الدولة وعقلها،

لينضاف إليها بيان رئاسة الحكومة الصادر يوم أمس على الساعة الثالثة بعد الزوال، الذي أعلن عن انعقاد مجلس وزاري مخصص للتنمية دون أية إشارة الى الفاجعة من بعيد أو من قريب، وكأن الأمر لم يحصل.

تجاهل كلي لفاجعة المزونة التي تتمثل في سقوط جدار على تلاميذ في المعهد الثانوي بالجهة أسفرت عن وفاة ثلاثة منهم وإصابة اثنين بجروح خطيرة. وقد كشف التعاطي الحكومي مع الفاجعة عن أننا لسنا إزاء حادث عرضي أو معزول أو عابر، بل اننا نواجه مرة أخرى حقيقة المرض المزمن الذي ينهش الدولة ومؤسساتها، وهو تقاطع الإهمال البنيوي وضعف المتابعة وغيابها وانعدام ثقافة المحاسبة وتحمل المسؤولية مع واقع عنوانه الأبرز اهتراء البنية التحتية العمومية وبلوغها مرحلة الانهيار والتفكك.

انهيار جدار معهد المزونة الذي قد يعتبر البعض بأن الرياح هي السبب المباشر لحدوثه، وإذا أراد أن يُحمّل مؤسسة أو جهة المسؤولية قد يقتصر على المسؤولين المحليين والجهويين وتسجيل الأمر على أنه نتيجة تراكم عقود من التسيب الإداري والإهمال والفساد والاقتصار على محاسبة بعض المسؤولين الجهويين أو مدير المعهد وبعض المسؤولين، أو الذهاب إلى تعويم المسؤولية وجعلها مشعة بين الجميع، دون تحميلها الى أي طرف، وكأن ذلك الجدار سقط «قضاءً وقدرًا» ولم يكن من الممكن أن نتفادى ذلك، وأن لا مؤشر سابق لوجود خطر، في إسقاط كامل لما عشناه من حوادث وفواجع تتشابه في أن السبب فيها هو الإهمال والتقصير وعدم الاتعاظ من الأخطاء السابقة التي أودت بحياة تونسيين وتونسيات، في علاقة بالصيانة أو بإجراءات التدخل غداة تسجيل خطر يهدد حياة الأفراد.

سقط جدار المعهد ومعه سقطت ثقة أولياء التلاميذ في المدرسة العمومية، وثقة المواطنين في مؤسسات دولتهم وكفاءاتها، وسقطت سردية الحكم التي طالما تغنّت بتكافؤ الفرص والتنمية المتوازنة والعدالة المجالية، والشعارات السياسية التي رُفعت وتم ترديدها منذ الاستقلال إلى حد اليوم.

ما حدث في المزونة ليس مجرد تأخر في القيام بالصيانة بسبب ثقل البيروقراطية، بل إقرار صريح بأن الدولة تدير مؤسساتها بمنطق التسيير اليومي، دون أفق استراتيجي، ودون تخطيط لكيفية معالجة الملفات وتتبعها، ودون اتخاذ القرارات والتراتيب والإجراءات العاجلة لمعالجة أي طارئ بشكل سريع وآني.

سقط الجدار ومعه ترسخ الانطباع بأن القرار العمومي يخشى من الوقاية ويتقن التبرير بعد وقوع الفاجعة والمسارعة الى تحميل المسؤوليات المباشرة دون الذهاب إلى تفكيك ما تعنيه الفاجعة وما تكشفه، وأول ما تبينه أن الخلل المتمثل في غياب الرؤية وضعف الحوكمة قد طال كل المرفق العمومية، الذي يتمثل في أذهان التونسيين في صورة المدرسة العمومية المتهالكة والمستشفيات العمومية المزدحمة والبنية التحتية المهترئة.

صورة تعايش معها التونسيون كما تكيفت معها مؤسسات الحكم، وقد تكتفي بتحميل موظف صغير في المندوبية الجهوية جزءًا من المسؤولية، بمفرده أو مع زملاء له، يقع تقديمهم للرأي العام بوصفهم الجناة، وبمحاسبتهم يُغلق الملف، كما كان عليه الأمر في حادثة سقوط جدار المدينة العتيقة بالقيروان والذي أسفر عن وفاة مواطن منذ أشهر.

خطورة الفاجعة تتمثل في أنها بينت لنا أننا لم نتعظ مما سبق ، ولم نتحلَّ بالشجاعة لنحميل، كلّ مخل، المسؤولية مهما كان موقعه. وهذا لا يعني التعميم أو جعل الأمر مشاعًا بهدف تجنب القول الصريح بأن المسؤولية السياسية والأخلاقية تقع على من لهم صلاحيات الحكم ومسؤوليته.

الحكم ليس بالخطابة أو بالشعارات والوعود، بل هو القدرة الملموسة على حماية حياة المواطنين أولًا، وتحسينها وتحقيق الرفاه لهم لاحقًا. حين تفشل الدولة والسلطة في تأمين جدار معهد، فهي فاشلة في أداء أبسط وظائفها، وهي ضمان الحق في الحياة لمواطنيها. وبالتالي لا معنى لأي خطاب حول «الإصلاح التربوي» أو «التنمية المستدامة» إذا كانت المدرسة نفسها، التي يُفترض أن تكون حاضنة للتعلم، تتحول مكانا للموت.

فاجعة لا يجب أن تمر دون أن نعيد تعريف مفهوم المسؤولية في الدولة والقطع مع إلقاء المسؤولية على الحلقة الأضعف. فاجعة يجب أن تغيّر منهجيتنا في معالجة الملفات، وأن نخضع مقاربتنا إلى مراجعة شاملة، لا تقتصر على جرد البنايات المهترئة، بل تشمل أيضًا مراجعة طرق التفكير وآليات العمل الإداري ومنظومة المحاسبة. نحن لا نحتاج إلى إعلان حداد، بل إلى إعلان قطيعة مع كل ما أدى إلى هذه الفواجع، وهو الانشغال بإدارة الأزمات بدل منعها.

المشاركة في هذا المقال