Print this page

كشف عنها دونالد ترامب: غزة والترتيبات الجديدة للمنطقة

لم تكشف زيارة رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى واشنطن عن أي تحوّل جوهري في موقف الإدارة الأمريكية

إزاء المجازر المرتكبة في غزة، بل جاءت تأكيدًا لاستمرار الرؤية الأمريكية المنحازة حتى وإنْ تزيّنت بمبادرة جديدة لوقف إطلاق النار. هذه المبادرة، في جوهرها، لا تمثل مسعىً لإنهاء الحرب على أسس عادلة، بل تعكس تصورًا مشوّهًا يُعيد إنتاج منطق الهيمنة، وتكريس التهجير كحل نهائي للقضية الفلسطينية.

في تصريحات مقتضبة من المكتب البيضاوي، أشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى رغبته في إنهاء الحرب، مؤكدًا على أن إدارته تُجري محادثات مع الاحتلال بشأن وقف لإطلاق النار. غير أن هذه التصريحات، التي جاءت هامشية في اللقاء، كشفت سريعًا عن رؤية أكثر خطورة، حين شدد ترامب على أن «لا أحد يرغب في العيش في غزة»، مستخدمًا هذا الادعاء كمدخل لإعادة طرح مشروعه العقاري القديم، الذي يرى في غزة فرصة استثمارية، لا أرضًا لشعبٍ يعاني من حرب ابادة واحتلال.

فقد صرّح بأن غزة «أرض عقارية ذات أهمية»، وكشف عن نية الإدارة الأمريكية في التعامل مع الجغرافيا الفلسطينية لا من خلال منطق السيادة والحقوق، بل عبر منطق الربح والخسارة، والتملك القسري. إنها نظرة استعمارية تُسقط جوهر العدالة من أي تصور سياسي وتُفرغ الصراع من بعده الإنساني والتاريخي.

الأخطر في تصريحات ترامب، ما لمح إليه بشأن نية بلاده تولي إدارة قطاع غزة مباشرة، عبر نشر قوات حفظ سلام أمريكية، في خطوة قد تُمهّد لتنفيذ عمليات تهجير منظمة، تحت غطاء «الطوعية»، لكن بمنطق الإكراه. هذه الرؤية تعكس، مرة أخرى، تموضع الإدارة الأمريكية داخل البنية الأيديولوجية للاحتلال، حيث يُختزل الفلسطيني في كونه عبئًا ديموغرافيًا وأمنيًا يجب التخلص منه، لا باعتباره ينتمي الى شعب حيًّ متجذر في أرضه وتاريخه.

الطرح الأمريكي للقضية الفلسطينية، في هذا اللقاء، لم يكن في مركز النقاش، بل ورد كملف ثانوي ضمن مقاربة أشمل لإعادة ترتيب المنطقة وترسيم توازنات جديدة بين قواها الإقليمية الكبرى: إيران وتركيا والاحتلال. وكان واضحًا أن الدم الفلسطيني، الذي يُراق يوميًا في غزة، لم يُطرح إلا كأداة لتسهيل هذه الترتيبات، لا كقضية تستوجب حلاً عادلاً. في الأثناء، سارع جيش الاحتلال إلى توسيع وجوده في القطاع ببناء مواقع عسكرية ومراكز مراقبة، في إشارة واضحة إلى نية فرض واقع احتلالي دائم غير مؤقت.

إن الهدف الحقيقي من زيارة نتنياهو لم يكن إنهاء العدوان، بل تثبيت تفاهمات استراتيجية تُكرّس المصالح الأمريكية والصهيونية وتُمهّد لمشهد سياسي جديد في غزة يخدم الطرفين على حساب الحقوق الفلسطينية. لقد شدد الرئيس الأمريكي على ضرورة تفادي أي تصعيد مع تركيا واعتماد القنوات الدبلوماسية في معالجة الخلافات معها. كما أشار إلى مساعيه لإبقاء الحوار مفتوحًا مع طهران بشأن مشروعها النووي، محذرًا من أي خطوة أحادية قد تُربك تلك المحادثات.

هكذا اتّضح أن مستقبل الفلسطينيين والمنطقة يُرسم في غرف مغلقة، وفق رؤى تتجاهل جوهر الصراع وتغفل حقيقة مركزية وهي: أن الشعب الفلسطيني، بهويته وتضحياته، ليس عنصرًا يمكن تجاوزه. بل هو الفاعل الوحيد القادر على إفشال هذه الترتيبات وكشف سذاجة الحلول التي تتعامل مع غزة كأرض شاغرة، لا كعنوان مقاومة وصمود.

ما لم يتم الاعتراف بأن أي إعادة لترتيب المنطقة لا يمكن أن تُفضي إلى استقرار حقيقي دون تحقيق العدالة للفلسطينيين، تظل كل مبادرات السلام شكلية، وستظل غزة عنوانًا للكرامة والإرادة، لا كصفقة في مزاد عقاري.

 

المشاركة في هذا المقال