Print this page

اذا ضاع الواجب ضاع الحق

ما زال التّونسيون يعيشون تحت وقع صدمة العنف اللّفظي والمادّي الذي أقدم عليه يوم أوّل أمس أمنيون منتسبون للنّقابة الوطنيّة للأمن الدّاخلي في ساحة الحكومة بالقصبة.. ولأوّل مرّة تتحرّك الحكومة بكلّ قوّة لتتبّع إداري وقضائي لكلّ من خرق القانون...

لا نريد العودة إلى ما هو مدان في عمليّة أوّل أمس من ناحية الشّكل (أحداث العنف في القصبة) وكذلك المضمون (التّهديد بعصيان إداري) بل إلى المناخات العامّة التي حصلت فيها هذه التّجاوزات وكيف ينبغي معالجتها بالصّرامة والحكمة الضّروريتين في نفس الوقت..
ينبغي أن يعلم الجميع أنّ كلّ استباحة للقانون أو للدّولة هي استباحة لقواعد عيشنا المشترك... وأنّ دولة تحترم نفسها لا يمكن لها الصّمت على هذا التّجاسر على حقّها وعلى حقّ المجتمع.
ولكن ما لا ينبغي أن نسقط فيه جميعا هو التّعميم المشطّ والمخلّ بالحقيقة.. فمن قام بهذه التّجاوزات الخطيرة يوم أمس ليسوا «الأمنيين» أو «النّقابات الأمنيّة» بل بعض الأمنيين الذين ينتسبون لنقابة واحدة.. ولا أعتقد، ولا أريد أن أعتقد، أنّ كلّ المنضوين تحت يافطة هذه النّقابة موافقون على هذا التّعدّي الواضح والصّريح على القانون شكلا ومضمونا..

ثمّ وبعد كلّ ذلك ينبغي أن نصارح أنفسنا بحقيقة مُرّة: منسوب العنف مرتفع لدينا بشكل مفزع.. وهذا ما نلمسه في كلّ مرّة لا فقط في الاحتجاجات القطاعيّة بل وكذلك في حياتنا اليومية وفي المشهديّة السياسية والإعلاميّة لجلّ ما يجري فوق ربوعنا..
تونس التي حازت على جائزة نوبل للسّلام لا تعرف دوما كيف تتحاور دون الانفلات باتّجاه العنف اللّفظي وأحيانا المادّي...

النّقابة الأمنيّة، أيّا كانت هذه النّقابة، هي جزء من المجتمع المدني، والأمني عندما يصبح نقابيّا يكون مواطنا كغيره من المواطنين له نفس الحقوق وكذلك نفس الواجبات..
وهذا فيما يبدو لم تفهمه النّقابة الوطنيّة للأمن الدّاخلي فالحقّ لا يُحمى إلا في توازن دقيق مع الواجب وإن تجاوزه واعتدى عليه حينها يسقط الواجب وإن سقط الواجب سقط الحقّ لأنّه سيبقى دون سند يدعمه..

محاسبة من أخطأ يوم أوّل أمس لا ينبغي أن تتحوّل إلى محاكمة للعمل النّقابي الأمني أو أن تصبح فرصة للتّنكيل بزيْد أو بعمْر.. ينبغي أن نعي الدّرس جيّدا وأن ننطلق من هذه التّجاوزات غير المقبولة بالمرّة لنجعل من بسط سلطة القانون على الجميع ودون أيّ استثناء هو القاعدة الوحيدة في تونس...

فكلّ أشكال الاحتجاج السّلمي مضمونة دستوريّا ومحميّة قانونيّا ولكن اللّجوء إلى العنف مهما كان بسيطا والتّجاسر على أجهزة الدّولة ومنع المرفق العمومي من الاشتغال والاعتداء على الملك العام أو على الأملاك الخاصّة كلّ ذلك ينبغي أن يحاسب مقترفه وأن نقطع نهائيّا مع وضعية الإفلات من العقاب أو – وهذا أخطر – أن ينال العقابُ فئات دون أخرى...

الإشكال في تونس هيكلي وهو الضّعف النّسبي للدّولة وهذا الضّعف النّسبي ليس نتيجة لهذه الحكومة أو لسابقاتها ونخطئ لو نعتقد أنّ حالة استباحة الدّولة هي فقط نتيجة سياسة هذه الحكومة.. إنّ استضعاف الدّولة من قبل مجموعات الضّغط، بأنواعها، ناتج بالأساس عن هذا الوهن النّسبي الذي أصاب الدّولة التّونسية وأنّ هنالك اعتقادا بأنّ هذا هو زمن «افتكاك» أقصى ما يمكن من المكاسب..

هذا الإشكال لا يمكن أن يُعالج إلا بصفة شاملة: إنفاذ القانون واحترام كرامة كلّ المهن والأفراد ومقاومة جدّية للفساد وإحلال العدالة مكان الظّلم وهذا مسار طويل لا يختصّ به اليمين أو اليسار بل سائر القوى السّياسية وكذلك المنظّمات الاجتماعيّة والمهنيّة الوازنة والفاعلة...

وضع الحكومة اليوم ليس سهلا بالمرّة.. إذ كيف ستقاوم اليوم هذا المنزلق الخطير بينما تساهلت مع كلّ المنزلقات التي سبقته ثم نحن لسنا متأكّدين من أنّها لو طبّقت القانون بالصّرامة المطلوبة ستجد الدّعم المستمر من جلّ القوى الاجتماعيّة الفاعلة..
كيف نوجد التّوازن الضّروري بين الصّرامة والحكمة حتى يقتنع النّاس بأنّ زمن الإفلات من العقاب قد ولّى دون أن يتحوّل هذا إلى كابوس يلاحق الجميع؟! امتحان عسير ينتظر حكومة الحبيب الصّيد وكذلك تونس برمّتها...

المشاركة في هذا المقال