Print this page

في الدولة وفي السلطـــة

ما الدولة ؟

لسنا ازاء اختبار في الفلسفة لتلاميذ الباكالوريا ولكننا ازاء تساؤل لم ينقطع

منذ أن تأسس هذا الكيان المفارق(Entité transcendante) في تاريخ البشرية ..

الدولة ومن يجسدها (الملك ، السلطان ، الخليفة ،الامبراطور الفرعون ،القيصر ،الأمير ..) كانا يمثلان على امتداد آلاف السنين ظل الله – أو الالهة في الثقافات غير التوحيدية - هذا إن لم يكن الحاكم في الدولة ذات مقدسة مثله مثل بقية الآلهة ..

ودون أي انتشاء نقول أن الحضارة الاسلامية وحدها وفي بعض فتراتها قد سعت بمقادير الى الحدّ من هذه القدسية المطلقة فالخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق لم يكن خليفة الله بل خليفة رسول الله، وليس في هذه التسمية الأصلية ما يربط الخليفة بالمقدس ودليل ذلك أن الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب كان يدعى في البداية خليفة خليفة رسول الله الى أن تم اختيار عبارة بشرية تجنبا لتكرار لفظة خليفة الى ما لا نهاية وهي عبارة «أمير المؤمنين» ولكن سرعان ما عمد الملوك والخلفاء الى اكساء حكمهم (بقداسة) تتجاوز بكثير مبدأ البيعة كتعاقد بشري بين الحاكم والمحكوم الى تكليف إلاهي يجعل من الخليفة ظل الله في الأرض.

لكن النزاهة الفكرية تقتضي بأن نقر بأن فلاسفة عصر الأنوار هم الذين سعوا – بنسب مختلفة – الى اعادة الدولة ومن يجسدها الى عالم التعاقد الارضي مع اجماعهم على كونها كائن مفارق لا بالاستناد الى المقدس بل الى المجتمع البشري ولكنها بقيت مع ذلك شبيهة بالآلهة كما عند الفيلسوف الانقليزي هوبس او هي العقل كما عند هيغل أو جُماع الارادة العامة كما عند روسو ولكن في كل الاحوال صاحبة حق الاهي ولا تستمد مشروعيتها من الغيب ولا تحكم بمقتضى قانون سماوي فهي اضحت مسيجة بمبادئ الحق الطبيعي (le droit naturel) وهي تمارس سلطتها وتنظم العلاقات بين الافراد والجماعات – نظريا على الاقل – وفق قواعد الحق المدني (le droit civil) ولكن تبقى الدولة كيان مفارق وذات اختصاصات شبه ربانية فهي وحدها التي تختص بالعقاب وتستأثر بالعنف الشرعي ولديها شرعية الاكراه والإجبار ولم يحدّ من غطرستها وسطوتها سوى تطبيقات نظرية الفصل بين السلط التي تستبطن ضرورة خضوع الدولة للقانون ولمؤسسات تتجاوز اعتباطية الحكام في ما اصبح يعرف بدولة القانون (او الحق) والمؤسسات .

ولعلّ النقد الاكثر جذرية الذي وجه لهذا الكيان المفارق جاء مع ماركس حيث اعتبر أن الدولة جزء من البنية الفوقية وهي أداة في يد الطبقة المهيمنة بما يعني أن الحاكم الفعلي في كل مجتمع هو الطبقة او التحالف الطبقي المهيمن وبالتالي وجود كيان مفارق هو مجرد وهم تماما كالدين .

إذن لقد فقدت الدولة قدسيتها، كذلك مفارقتها لتصبح مجرد أداة قمعية في يد الطبقة المهيمنة.

نحن هنا في مجال التبسيط لأن المقاربات النظرية للدولة ولدورها في المجتمع عند كل المدارس الفكرية أعقد من هذا بكثير لكنها في المحصلة تقر بنوع من الاستقلالية لهذا الكيان وأضحت تميّز بينه وبين السلطة والتي قد يمارسها اناس منتخبون أو قوة غاشمة لكنهم يدعون كلهم تمثيل الشعب أو مصالحه الحيوية وكلهم يقولون ان الشعب وحده صاحب السلطة الأصلية .

وقد ساهمت العولمة دون شك في الحدّ من صورة الدولة ككيان متعال لا حد لسلطته اذ فرضت على جلّ دول العالم القبول بالتنازل عن صلاحيات حصرية كانت تعتبر من عناصر سيادتها .

المفاهيم والنظريات مهمة جدا لأنها تسمح لنا بتعقل العالم المحيط بنا، لكنها لا تعوض الواقع بأي حال من الأحوال، وهي إن عوّضت الواقع أو تعسفت في فهمه فهي تنتقل من دور النظريات المعينة على فهم الواقع الى الايديولوجيات المعيقة عن ذلك.

المقاربة الأداتية للدولة في اطار الصراع الاجتماعي تضيء، دون شك، جوانب جديدة لكنها لا تفسر كل شيء ، اذ لا تكاد توجد دولة واحدة تغيّب تماما الجانب الاجتماعي او لا تنتصر إلا لطبقة او تحالف طبقي بذاته ، فالحزب السياسي قد يعبّر عن مصالح طبقية ما ولكن ليس بإطلاق دائما، ثم إذا وصل الى السلطة وأدار الدولة لا يستطيع بداية أن يفرض كل شيء، حتى لو ادعى التماهي مع الدولة كذلك هو مجبر، في اغلب الاحوال ، على مراعاة التوازنات الكبرى لكل بلاد وعلى موازين القوى داخلها ..

ومهما يقال عن تبعية سلطة ما لتحالف طبقي معيّن الا ان واقع الحال يقول بأن الدولة فوق التحالف الطبقي المحلي بل أنها كثيرا ما تجبره على أشياء لا يرتضيها وهي لا ترضخ له في كل ما يريد، كذلك ثمة دول لا يصح عليها مطلقا الحديث عن كونها اداة في يد تحالف طبقي ما كالصين او روسيا أو افريقيا الجنوبية على سبيل الذكر لا الحصر ..

واليوم في أمريكا مع ترامب ومع وجود اثرى اثرياء العالم في حكومته، هل يمكن أن نقول أن الدولة الامريكية اداة في يد الطبقة المهيمنة؟ أم ان قوتها وطموحاتها الاستراتيجية تتجاوز كثيرا رغبات الطبقة المهيمنة ،فالدولة هنا هي القائد لا التابع، والطبقة المهيمنة (على افتراض سهولة تعريفها) مضطرة الى الانصياع والتأقلم.

ما نريد قوله هنا هو تمكن الدولة، هذا الكيان المفارق ، من الحفاظ على قدر هام من استقلاليته وبالتالي من هيمنته على كل مكونات المجتمع، وقدر ما تتأزم الاوضاع الداخلية او تتصاعد الصراعات بين الدول على مستوى عالمي، كما هو حاصل لا اليوم فقط، ولكن على امتداد هذه العقود ايضا .. كلما تتوسع رقعة استقلالية الدولة وكلما نزعت الى الهيمنة في الداخل والخارج وكأنها تستحضر عقلها الزواحفي (son cerveau reptilien) عندما كانت قوة غاشمة باطشة لا حدّ ولا رادع لها ..

اننا نعيش عصر «ازدهار» الدولة في جلّ بلدان العالم سواء أكانت ديمقراطية أو استبدادية او بين هذا وذاك ، وهذا «الازدهار» يتماشى طردا مع تراجع الاجسام الوسيطة الوازنة اي تلك التي تحدث التوازنات الاساسية داخل مجتمع ما كالنقابات بأصنافها والأحزاب والجمعيات، كما يتماشى هذا «ازدهار» طردا مع انحسار دور المثقفين (لا نقصد هنا تقنيي المعرفة) باعتبارهم الضمير الحي لكل مجتمع..

هذا التراجع المزدوج نلاحظه اليوم في جلّ أرجاء المعمورة وهذا ما يفسر في رأينا بروز خطابات القوة والإقصاء والاستفزاز والانزواء على الذات عند غالبية النخب السياسية الحاكمة او الطامحة لذلك في دول الشمال والجنوب على حدّ سواء ..

ما نعيش بواكيره الأولى اليوم ليس موجة عابرة قد تذهب مع الأشخاص الذين يجسدونها اليوم .. بل نراها موجة عارمة حمّالة لعنف ولحروب قادمة .

لاشك أن التاريخ لم يكتب بعد وأن الأسوأ ليس قدرا محتوما على أحد، لكن لتجنبه نحتاج إلى الفهم أولا والعمل ثانيا او بالأحرى الفهم والعمل معا ..

نحتاج إلى الفهم المتجاوز للطوباويات مهما كانت نبيلة والعمل المشتغل على الممكنات.

ما نقوله ليس رضاء بالأمر الواقع بل طموحا كبيرا لتغييره لكنه طموح الممكن لا طموح الخيال.

المشاركة في هذا المقال