Print this page

بين القصرين... قرطاج و باردو : معارك من الزيتون الأخضر إلى الجوازات الزرقاء

لا تخمد حرب حتى تندلع أخرى يبدو ان هذا ما ستكون عليه العلاقة بين قصر قرطاج ومجلس باردو، فمنذ انتصاب الطرفين

واغبرة المعارك بينهما تتصاعد من كل حدب وصوب، انطلقت بالزيتون ومرت بكل المحطات لتصل اليوم الى جوازات السفر الدبلوماسية.
ما إن انتهت ازمة مشاورات تشكيل الحكومة حتى عقدت لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية جلسة يوم الخميس الفارط للنظر في مقترح القانون عدد 13 لسنة 2020 المتعلق بإتمام القانون عدد 40 لسنة 1975 المؤرخ في 14 ماي 1975 المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر، وانتهت الى المصادقة على مقترح اضافة فصول للقانون تنص على إسناد جوازات دبلوماسية لأعضاء مجلس نواب الشعب.
مقترح تم تبريره بانه يهدف الى ضمان حسن آداء النواب لمهامهم خارج الوطن سواء في إطار التعاون الدولي والدبلوماسية البرلمانية أو في إطار ممارستهم لعملهم الرقابي ومتابعة شؤون ناخبيهم بالدوائر الانتخابية بالخارج، وفق البلاغ الصادر عن المجلس الذي يشير الى ان الإجراءات المتّبعة للحصول على التأشيرة قد حالت في عديد المناسبات دون قيام النواب بمهامهم أو المشاركة في مختلف التظاهرات الإقليمية والدولية أو كذلك التواصل مع ناخبيهم بالخارج. هذا التعليل هو ما رافق اعلان اللجنة عن مصادقتها على المقترح وتمريره للجلسة العامة للمصادقة عليه.
بعيدا عن الحجج والشرح الذي رافق الاعلان عن مسعى البرلمان لسن قانون بموجبه يمنح النواب جوازات سفر دبلوماسية، يبدو ان الامر يتجاوز ما يعلن خاصة وانه مرتبط بشكل مباشر بموقف رئاسة الجمهورية من منح النواب امتياز جوازات سفر دبلوماسية، حيث سبق لها وان اعلنت رفضها الامر وان الامتياز مقتصر على رئيس المجلس ونائبيه.
لتقدم الرئاسة موقفها بناء على الأمر عدد 564 لسنة 1989 المؤرخ في 15 ماي 1989 (غير منشور) الذي حدد شروط منح جواز السفر الدبلوماسي للأشخاص المنتفعين به. وقد خصّ الأمر المذكور رئيس مجلس النّواب وحده بحق الانتفاع بصفة آلية بجواز السفر الدبلوماسي. كما انه لا توجد أي وثيقة كتابية أو مذيلة تثبت إصدار رؤساء الجمهورية السابقين لقرارات تقضي بمنح جوازات سفر دبلوماسية إلى أعضاء مجلس نواب الشعب.
رد الرئاسة يبدو انه استفز المجلس الذي بادر الى الدفاع عن نفسه بتقديم مقترح قانون وتسريع مساره ليصل الى الجلسة العامة للمصادقة عليه، وبذلك يجبر المجلس السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة الخارجية على منح اعضائه جوازات سفر دبلوماسية، طالما ان هذه السلطة تتمسك بان القانون لا يخول للنواب نيل جوازات سفر دبلوماسية.
هذا الحدث بمفرده، دون العودة لأحداث قديمة، يكفي للقول بأن الخماسية القادمة ستكون خماسية الصراع بين السلطة التشريعية والتنفيذية الممثلة في رئيس الجمهورية، فان رفضت الرئاسة منح امتياز يمكن للمجلس ان يمنحه بنفسه لنفسه، وهذا بالنسبة للمجلس كاف لتصل للرئاسة رسالته وهي انه «السلطة» في البلاد.
صراع فرض بشكل او باخر على البلاد والمشهد السياسي، انطلق بملف زيت الزيتون الذي شهد تجاذبا بين رئاسة الجمهورية ومجلس النواب في ايهما يكون الاسبق في معالجة ازمة كان من المفترض ان تديرها حكومة يوسف الشاهد التي وقفت جانبا وتابعت الصراع بين الوافدين الجدد على رئاستي الجمهورية والمجلس، لاحقا أثيرت مسالة جوازات السفر الدبلوماسية من قبل المجلس وحسمتها الرئاسة لصالحها. لتنتهى جولة 2019 بنقطة لكل طرف.
صراع استمر وتطور تباعا ليكشف عن بعده السياسي في ملف حكومة الحبيب الجملي، ومنه انتقل الى حكومة الياس الفخفاخ وما شهدته فترة المشاورات من انتقال الصراع بين المؤسستين من ادارة ملفات تقنية بالأساس الى صراع سياسي يريد كل طرف فيه ان ينتصر ويعلن عن «زمنه» فإما زمن الرئيس وزمن مجلس النواب.
صراع عبر عن نفسه في عبارات ومصطلحات وتصريحات لم تنته بانتهاء الأزمة فان قال رئيس الجمهورية قيس سعيد، يوم الاربعاء الفارط، ان البلاد فيها رئيس جمهورية وحيد لا ثلاثة رؤساء، يجيبه المجلس، يوم الخميس الفارط، بتصريحات احد نوابه وان كان من حركة النهضة بان النظام السياسي للبلاد نظام شبه برلماني يوزع الصلاحيات على ثلاثة مراكز أساسية باردو القصبة وقرطاج.
لاحقا، في ذات اليوم، تصادق اللجنة على تعديل القانون المتعلق بجوازات السفر، وهي خطوة نظرت اليها الرئاسة لا على انها محاولة تعديل القانون لتجاوز عقبة رفض الرئاسة لنيل الجواز الدبلوماسي بل استفزاز يريد المجلس من خلاله تحدي المؤسسة وفرض خياراته عليها.
الجديدة في هذه المرحلة من الصراع ان المجلس تحرك ككيان واحد متجانس، فأغلبية اللجنة من مختلف الحساسيات صادقت على المقترح المقدم اليها، تماما كما كان عليه الحال في علاقة بتحديد موعد جلسة منح الثقة لحكومة الفخفاخ التي وقع برمجتها بعد جلسة المصادقة على العتبة الانتخابية- قبل التدارك لاحقا والتأجيل- لكن في الحالتين حرص المجلس على ان يتحرك ككيان متماسك يواجه «عدو» يستهدفه ككيان لا كمجموعات او افراد. وهذا ما يبرر الالتقاء الموضوعي بين الكتل المتناقضة في ملف جواز السفر.
ملف اقحم المجلس برمته بعد ان كان الصراع بين المجلس وقصر قرطاج مقتصرا على صراع بين رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس المجلس وحركة النهضة راشد الغنوشي، الذي حرص في اكثر من مناسبة على ان يدرك رئيس الجمهورية انه احد اللاعبين ولكنه ليس اللاعب الرئيسي.
حتى في نقطة قراءة الدستور وتاويله حرص الغنوشي على ان يلتقي باعضاء من الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين لاستشارتهم في خلاف الفصلين 89 و96، ليرسل رسالة لسعيد مفادها انه لا يحتكر وحده تأويل الدستور، رغم ان المسألة حسمت.
كل هذه المعارك والحروب الصغيرة تكشف بشكل قطعى ان الصراع اليوم في تونس سيكون بين مؤسستين، كل منهما ترغب في ان تكون هي المتحكمة في اللعبة السياسية وتفرض ايقاعها وزمنها على البقية، وان كلى الرجلين في اعلى هرم المؤسستين حريص على ان ينتصر على صاحبه ليكون هو «الحاكم» الفعلي للبلاد.

المشاركة في هذا المقال