Print this page

رحيل لينا بن مهني: النخل لا يموت.. وأثر الفراشة لا يزول ...

«سآخذ وجهي وأرحل، إن أزفت ساعتي، ثائرا كالرياح، وملتهبا كالحقول التي أشعلتها الجراح،

سآخذ حزني وأرحل، ملتحفا بالأناشيد والذكريات»، هي أبيات بحجم الملحمة وبمرتبة الوصيّة أبدعها الشاعر الكبير آدم فتحي وتلقفتها لينا بن مهني تميمة صمود وتعويذة ضد الموت ووشاح حياة.

حتّى في اسمها كانت مختلفة وقريبة وودودة ومتمردة، فجمعت لينا بين «اللّين» و«النون» الصادحة بقضايا النساء والناطقة باسم الأنا والهنا والانتماء لنا... لذا كتبت الحياة اسمها بحروف من ذهب ونور.

أيقونة النضال... درة النساء
في توليفة عجيبة، رائعة، استطاعت لينا بن مهني أن تروّض المتناقضات وأن تصهر الأضداد، فإذا بها تتسلح بعيون جميلة ووديعة لا تلبث أن تتحوّل إلى حمم من نار في معارك الصمود والنضال... وإذا بها تتزيّن بابتسامة عذبة ورقيقة سرعان ما تبرق بالزوابع والرعود عند الأزمات والثورات... أما الجسد النحيف والسقيم فكان صمّام أمان ضدّ هراوات البوليس والاعتداءات وكأنّ أوجاعه وندوبه تتحوّل إلى مضادات حيوية تهب صاحبته جرعة إضافية من المناعة لمزيد من المقاومة، لكثير من النضال والكفاح.

قد يكون عمر لينا بن مهني عند الرحيل قصيرا بحساب تاريخ الميلاد ومقتضبا بتقدير السن الزمني، لكنه حين يقاس بمحرار التجربة وبمجهر مخبر الحياة يصبح أضعافا وأضعافا. وهي التي كانت تهب يومياتها بمنتهى السخاء والعطاء إلى قضايا الوطن وتهدي روحها الأبيّة قربانا للحرية. وقبل أن تنسحب من بيننا دون أن تسحب منا ما أعطتنا إياه من بسمة وتحية، دمعة وتضحية... حدثتنا لينا بن مهني عن سيرة من ذهب لامرأة تونسية لم تحن الرأس للسلط ولا للمرض، فقالت: «أصبت بمرض مزمن منذ نعومة أظافري فحرمت من ممارسة حياة طبيعية لما تعلق الأمر بالتعرض إلى أشعة الشمس وممارسة الرياضة وغيرها من الأنشطة التي عادة ما تمارسها مراهقة في عمري. ولكنّني واجهت ما حلّ بي بالصبر وقوة العزيمة واخترت أن أهتمّ بأنشطة أخرى كانت أهمّها المطالعة والكتابة . بعد أعوام أخرى فقدت كليتي فاخترت أن أواجه من جديد و بفضل والدتي التي منحتني كلية عدت إلى ممارسة الرياضة والحياة بصفة طبيعية، بل وخضت معارك منها ما كان ضد الدكتاتورية وبعضها ضدّ ظلاميين هددوني بالقتل وواجهت بجسدي النحيل العليل عصيّ القمع في مناسبات عديدة. وزادني ذلك إصرارا على التحدي و في نفس الوقت شرّفت بلادي بميداليات رياضية في تايلاندا واستراليا وليبيا و تونس و حصدت العديد من الجوائز العالمية في مجال الصحافة و حقوق الإنسان وورد اسمي في قائمة المرشحين لجائزة نوبل للسلام الفضل يعود إلى المرض الذي علمني الصبر والمثابرة وخاصة الرأفة بكل الكائنات . في الفترة الأخيرة تعددت وعكاتي الصحية وصرت مهددة بفقدان الكلية المزروعة بعد أن تضررت لعدة أسباب لعلّ أهمها تهاون الدولة وعدم مراقبتها لأدوية تحوم الشكوك حول صلاحيتها .وأنا الآن أمر بفترة حرجة ولكن مازالت هنا أقاوم... و يبقى الأمل قائما رغم الألم» .

في ساعاتها الأخيرة وهي بيننا هنا على الأرض قبل أن تختار الصعود إلى السماء لترنو إلى الشمس من مدارات أقرب، استرجعت لينا بن مهني على جدار صفحتها ذكريات الأمس وما مضى دون أن تنسى الترّحم على روح أستاذها الطاهر اللباسي، وأن تساند عضو الهايكا هشام السنوسي ضد حملة رضا الجوادي الشعواء، وأن تكتب في الشأن العام بكل جرأة ودون مجاملة «نحن شعب لا يتعظّ من ماضيه ولا يحفظ دروس التاريخ و كأنّني بنا شعب قصير الذاكرة أو دعوني أقول معدوم الذاكرة ...تستهوينا بعض عروض التهريج في مجلس النواب فنصفّق لأصحابها ونعتبرهم من التقدميين ومن المصلحين و ننسى عبثهم وفسادهم وقمعهم وحتى عنفهم»... وفي الختام توصينا لينا بن مهني بالحذر قائلة: «فلا الدستوري الحرّ حزب تقدّمي ولا النهضة حزب ثوريّ.فلا تنخدعوا بالتهريج وبالمسرحيات. من شبّ على شيء شاب عليه» .

لم تنل «نوبل للسلام» لكنها ستبقى حمامة سلام
صوت أو صورة، قلم أو مقال، تدوينة أو مظاهرة أو محاضرة... تعددت أشكال المقاومة في حياة لينا بن مهني وكانت التسمية الواحدة: أيقونة النضال.
عن قضايا المرأة وحقوق المحتجين والمهمشين والمعطلين والمعذبين في السجون... دافعت «البنيّة التونسية» واصطفت في الصفوف الأمامية متصدية للقمع والرصاص في الشوارع والساحات . فكانت معركتها من أجل الحريات وحقوق الإنسان ليست فقط مجرد حضور مشرف في الندوات الدولية والمنصات الحقوقية بل

كانت التحاما بالبسطاء في الانتفاضات واحتكاكا بالسجناء وراء القضبان وترحالا مستمرا بين الجهات ... فأينما وجد استبداد واضطهاد تصدت له لينا مهني بالحبر والكاميرا والتنديد والتوثيق.
هي مسيرة إمرأة بصيغة الجمع وبمفرد التعدد يصعب حصرها وتطويقها في كلمات قد تموت حين تقال ! ولكن يكفيها شرفا وفخرا أنها راكمت الجوائز والألقاب في جرأة التعبير وشجاعة الموقف والاستماتة في الدفاع عن القضية منها على سبيل الذكر لا الحصر، جائزة شون ماك برايد لسنة 2012 مناصفة مع نوال السعداوي

ولقب أفضل مدونة في مسابقة «البوبز» عام 2011 وجائزة الصحافة العالمية من جريدة الموندو الإسبانية... كما احتلت المرتبة 23 ضمن قائمة أقوى 100 امرأة عربية لعام 2012.

وإن شهد العالم بأسره بدور المدونة لينا بن مهني في نقل فصول الثورة التونسية رغم الحصار والخطر، فقد تم ترشيحها سنة 2011 لنيل جائزة نوبل للسلام وكذلك سنة 2013. ولأسباب أو لأخرى لم تنل لينا هذا التتويج لكنها ستبقى حمامة سلام ترفرف في كل الأوطان وتلقي غصن الزيتون في كل الأزمان.

قد تغيب لينا عنا قليلا وقد تطيل الرحيل ولكن طيفها سيختال بيننا في رشاقة الغزالة البيضاء وقد لا نرى وجهها من قريب لكن اسمها كأثر الفراشة باق هنا ولا يزول... ولن يزول.

المشاركة في هذا المقال