Print this page

بدعوى الاستناد إلى الدستور والقانون لإحداث صندوق الزكاة: في مخاطر تفصيل فصوله على القياس

تستند بلدية الكرم ممثلة في رئيسها النهضاوي فتحي العيوني على قراءة بعينها لنص الدستور ولمجلة الجماعات المحلية لتجد

سندا قانوني لبعث صندوق للزكاة وكيفية إدارته وفق «أحكام الشريعة»، وبهذا يقع المحظور وهو تولي كل جماعة أو جهة تأويل الدستور والقانون وفق قراءتها الخاصة واعتبار ان تلك القراءة هي «الحق».

خلال السنوات الفارطة تعدد النزالات التي كشفت للفاعلين السياسيين في تونس عن حجم الخطر الذي يحدثه غياب محكمة دستورية تتولى تأويل نص الدستور ومدى ملائمة القوانين لمضمونه، انطلاقا من قانون المصالحة مرورا بملف هيئة الكرامة والعدالة الانتقالية وصولا لرفض ختم تعديلات القانون الانتخابي في جويلية الفارط.

الأمثلة عن الأزمات التي ألقيت فيها البلاد بسبب قراءات خاصة لنص الدستور ومحاولة تأويله بما يحقق مصالح هذه الجهة او تلك، عديدة لكن اخرها تلك التي جدت منذ يومين، بإعلان رئيس بلدية الكرم النهضاوي فتحي العيوني عن تأسيس صندوق للزكاة أكد انه سيسير وفق الشريعة وبأحكامها المتعلقة بالزكاة ومصارفها والعاملين عليها.

هذا الصندوق استند باعثوه الى نص الدستور وفصول الجماعات المحلية ، وقد كشف العيوني لـ»المغرب» في عدد يوم الخميس الفارط، عن سنده الدستوري والقانوني، اذ انطلق من الفقرة الثالثة من توطئة الدستور التي تتضمن التالي «تعبيرا عن تمسك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتّسمة بالتفتّح والاعتدال،.....المستندة إلى مقوّمات هويتنا العربية الإسلامية ...» وما تضمنته ايضا الفقرة الثالثة من التوطئة «وبناء على منزلة الإنسان كائنا مكرّما، وتوثيقا لانتمائنا الثقافي والحضاري للأمّة العربية والإسلامية...».

العودة الى نص التوطئة واقتناص العبارات التي تسمح بقراءة دستورية تجعل من تونس دولة إسلامية وان بحدود معينة، هو ما استمر مع الفصل الاول من الدستور القائل بان «تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها.»

هنا يتضح ان القراءة الخاصة ببلدية الكرم واعضاء مجلسها البلدي ورئيسها قامت على اعتبار أنّ اية اشارة الى الهوية الإسلامية بمثابة حجة على هوية البلاد الإسلامية وان هذا مدخل لتنزيل الشريعية الإسلامية واعتمادها كمصدر للتشريع وسن القوانين وتنظيم العلاقات الاجتماعية.

منطلق اقتنص كل فص ورد فيه مصطلح «إسلام» او «إسلامية» وفسره على انه سند يسمح في هذه المرحلة بإحداث صندوق للزكاة وفق الأحكام الشرعية التي تتضمن دورا لرجال الدين في إدارته والإشراف على الصندوق.

ولان الأمر لا يقتصر على الجانب الشرعي فقد استندت بلدية الكرم أيضا على فصول أخرى من الدستور وهي الفصل الثاني الذي ينص على ان «تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون» وهنا يبدو ان ما دفع لهذا الاستناد هو التنصيص على إرادة الشعب.

اما الدافع للاعتماد على الفصل 132 من الدستور فهو قوله «تتمتع الجماعات المحلية بالشخصية القانونية، وبالاستقلالية الإدارية والمالية، وتدير المصالح المحلية وفقا لمبدأ التدبير الحر»، هنا يتضح ان القراءة لهذين الفصلين انتهت الى اعتبار ان الدستور الذي يكرس إرادة الشعب، يسمح لجزء منه -ممثلين في أعضاء منتخبين في جماعة بلدية- بإدارة شؤونهم الخاصة بالكيفية التي يرونها، طالما لا تتعارض مع وحدة الدولة. وهنا سنعود لوحدة الدولة التي يبدو ان مفهومها بات يقتصر على الوحدة الترابية.

اقتطاع فصول الدستور من سياقاتها والفهم المشترك لها، يقود الى اعتبار ان الدستور التونسي يسمح اليوم بإحداث صندوق للزكاة كآلية لتجميع المال من قبل جماعات محلية او جهوية او حتى مركزية، تتولى هي لاحقا إنفاقه في مصارف الزكاة الثمانية التي تتضمن الانفاق في «سبيل الله» بما في ذلك الجهاد.

هنا يكمن الخطأ والخطر الذي لن يقف عند حدود إحداث صندوق للمساعدات والتبرعات المالية، بل يهدد بان يمتد كبقعة زيت في الثوب، فالقراءة الدستورية التي اعتمدها فتحي العيوني تقوم على تطويع الدستور لقناعاته وأفكاره، لا فهم الدستور وسياقه، وهذا الفعل قد يصبح «تقليعة» يتبعها اخرون.

اي أننا امام خطر تولى كل جهة/حزب/جماعة/أفراد تأويل الدستور وفق هواها، وتنزيل هذا الفهم على الأرض وتطبيقه ان كان لهذا القراءة «سلطة» وان كانت محدودة، اليوم لم يعد الامر متعلقا بمناقشة هل انت مع إحداث لصندوق زكاة أم لا إنما يتعلق بالدستور واحترامه وحمايته من ان يصبح نصا يؤوله كل شخص وفق هواه.

هذا الخطر لا يمكن دفعه إلا بمحكمة دستورية تحمي الدستور وتونس من تقلب أفئدة أشخاص او جماعات ومن نزوات او نزعات لتحقيق «أحلامهم» على حساب المجموعة الوطنية، فالدستور هو العقد الذي ينظم العيش المشترك للتونسيين والسماح بان تتولى كل مجموعة تأويله وتفصيله على مقاسها يعنى اننا ننسف كل أواصر العيش المشترك بيننا كشعب ومجتمع متنوع يدير الاختلافات بينه بعقد ارتضاه الجميع.

عقد يحمي الوحدة الوطنية التي تتجاوز هنا الوحدة الترابية لتتعلق بكيفية إدارة الفضاء العام وماهو الممنوع والمباح فيه، وما هي أدوات الدولة والياتها ومن يقدم ليمثل التونسيين في إدارة أجهزتها وسلطها، وكيفية العيش المشترك بيننا كتونسيين على اختلاف انتمائنا وعقائدنا وأفكارنا ولوننا.

السماح اليوم لجهة بان تفسر الدستور والنصوص القانونية وفق قراءتها الخاصة المنطلقة من انتماء ايديولوجي او ديني او غيره، يعنى اننا نعود لمربع صراع الهويات وتطاحن الجماعات بهدف فرض كل طرف لرأيه او تفتيت الدولة وجعلها مناطق نفوذ وهيمنة تنزل فيها كل عشيرة وقبلية ما تراه مناسبا لها.

المشاركة في هذا المقال