Print this page

ورقة الوراق 2017 المصالحة لا تُفرض

بقلم: حمادي الرديسي
مرة أخرى يرجع الحديث بقوة عن المصالحة الاقتصادية في جو من التشنج يتناقض مع مبدإ التصالح نفسه. وفي لخبطة نظرية تخلط بين العدالة والعدالة الانتقالية وبين التصالح والعفو. وما حملة المجتمع المدني «ما نيش مسامح» والمسيرة التي قامت بها ما يتجاوز العشرة

أحزاب الا تعبير عن غضب جزء كبير من الرأي العام عن قانون العدالة الانتقالية على الأقل في صيغته الحالية. وان كان العفو لا يرفض فإن المصالحة لا تفرض. وهذ يعني انه لو وقع حتى التصويت على القانون بدون وفاق فانه سيقع التراجع فيه لاحقا لو تغيرت المعادلة السياسية (أقول المعادلة لا الأغلبية الانتخابية).

هنالك لغز لم احله واشكال لم يستطع أحد أن يفسره لي. لماذا يصر رئيس الجمهورية على تقديم المشروع بإسمه (عوض تقديمه بإسم الحكومة وهو أسلم دستوريا وأقل هرجا)، لماذا يصر لثالث مرة بدون تغيير في صيغته الأصلية جوهريا رغم كل النصائح ورغم كل الانتقادات التي طالت المشروع منذ أول وهلة. الكل قال أن الفكرة طيبة والإخراج سيئ والمحتوى أسوأ. قيل ذلك مباشرة لرئيس الدولة. ولكن الرئاسة لا تسمع. هنالك خزعبلة واضحة لا ندري ما وراءها. لو أردنا بالموظفين خيرا لماذا يقع ادغامهم في مصالحة اقتصادية (أقول مصالحة اقتصادية لا انتقالية) لا دخل لهم فيها؟ وما الداعي للعفو عن مخالفات الصرف (التي لا تنتمي لا للمصالحة للاقتصادية ولا الانتقالية)؟ الخلط اما مقصود أو ينم عن جهل بمفهوم العدالة الانتقالية الذي يدعي الفصل الأول لمشروع القانون الانتماء لمنظومته.

لا يتسع المجال للدخول في متاهات نظرية. ولكن العدالة الانتقالية سميت هكذا منذ أول لجنة حقيقة في الأرجنتين (1983) وأول كتاب لروتي تايتل (2000) لأنها تواكب الانتقال من النظام التسلطي إلى الديمقراطية. وإن كانت مبادئها خصوصية الا أنها لا تخرج عن مفهوم العدالة أي منذ أرسطو في الأخلاق نيقو ماخوس (الفصل الخامس) ارجاع الشيء الى نصابه أكان ذلك برد الأمانة الى أهلها أو جبر الضرر (وهو نوع من ارجاع الأمور الى نصابها). وتطرح العدالة الانتقالية ثلاثة أنواع من المسؤولية لا تزال محل جدل: المسؤولية السياسية البحتة للطاقم السياسي (سرحناهم وعفونا عليهم وسمحنا لهم بالنشاط السياسي) والمسؤولية الجنائية للشرطة والجيش أثناء الثورة (أوكلت للمحاكم) والمسؤولية الاقتصادية (الراشي والمرتشي). وهنا بيت القصيد.

إن المصالحة التي تقصد في العدالة الانتقالية لا تهم الا من انتفع من علاقته بنظام التسلط وعلاقته مع بن علي وطاقمه. هذا هو جوهرها. لا تهم المجتمع ولا العلاقات العامة. وبعبارة أخرى لو رشيت وارتشيت زمن بن علي بدون أن يكون لما قمت به أي علاقة لا به ولا بنظامه نفعا أو انتفاعا. وأحيانا يكون باختلاس أموال عمومية (بدون رضاء بن علي ودولته) فهذا لا يدخل اطلاقا في العدالة الانتقالية. هذا يدخل في باب آخر هو باب التساهل مع النهم والنهب. واعطف على إجراءات الصرف. من حق الدولة أن «تعفو» (كما جاء في مشروع القانون في الفصل السابع) تشجيعا للاستثمار و«تدوير الزيرو» ولكن لا تقل لنا أنها عدالة انتقالية. لا أريد أن أحرك السكين في الجرح ولكن غموض الفصل الثالث والرابع قد يفتح الباب على التأويلات بما فيها الرجوع في قائمة الأشخاص الذين وقعت مصادرة ممتلكاتهم، عائلة بن علي وأصهارهم.

وأكبر ضحية لهذا القانون هم الموظفون الذين ينتمون من منظور العدالة الانتقالية للمسؤولية السياسية لا الاقتصادية. لأنهم موظفون. نحن رفضنا المتابعة السياسية للنواة المغلقة المحيطة بالقصر (وهم معروفون اسما). فحتى بن علي لا يتابع سياسيا ولا نزال نتابع من طبق تعليماته. خور.

يقول غاندي : لو طبقنا قانون العين بالعين لأصيب العالم بالعمى. لذا وجب العفو. والعفو ليس جبائيا (هذه تجارة رابحة) بل أخلاقي. هو يأتي من المتضرر ومنه فقط. وبقدر ما يكون الضرر جسيما (كما هو الحال في المحرقة وفي هيروشيما وفي النظام العنصري في أفريقيا الجنوبية) بقدر ما يكون العفو جميلا. أما المصالحة فتشترط قبول الطرفين، المتضرر والجاني. لذلك يميز الفيلسوف جاك ديريدا بين عفوين «العفو المحض» و»العفو المقايضة». الأول مطلق وغير مشروط وغير مطالب به. هو هبة. أما الثاني فيطالب به الجاني ويشترط فيه جبر الضرر والاعتذار أو كما نقول في الفقه الإسلامي التوبة في حقوق الآدميين. من الواضح أن مصالحة الباجي قائد السبسي لا ترتقي حتى للعفو المقايضة ويبدو أن الرأي العام التونسي غير مستعد لإهداء العفو لـ«عصابة السراق».

المشاركة في هذا المقال