وهو يصارع المرض في شهر ماي 2015 وقد وجهه إلى فقيد آخر للساحة الابداعية التونسية وأحد أعلام جريدة «المغرب» المغفور له أولاد أحمد وهو يصارع نفس المرض الخبيث آنذاك نص يحماةلنا إلى عوالم روحية وإبداعية نادرة، تخرجنا من اليومي والجزئي لنعانق بفضلها المطلق، عالم القيم والروح، عالم النبل والجمال...
استعرت لعنونة هذه الخواطر عنوان الكلمة التي حبتني بها «هيئة تحرير المغرب» عند زيارتها لي في المصحّة بعد نجاح العمليّة التي أجريت عليّ في صائفة 2012، عنوان أثير لنفسي، دقيق ومعبّر يختزل آلام الماضي، ويحمل شحنة أمل للمستقبل. كنت أعتزم كتابتها حالما علمت بمرضك، لكن المرض حال دون ذلك، كانت الأوجاع تقطّع أوصالي، لم يجد الأطباء من حيلة لتهدئتها إلا الاستنجاد «بالمورفين» كنت أشعر من شدّة المرض وكأنني أعيش الموت، أرق، سهاد، كوابيس، حياة في طعم الموت وموت في طعم الحياة، لكن عزائي أن في معايشة الموت بقية حياة. والآن بعد أن تماثلت للشفاء، وفي انتظار أحكام المرحلة الجديدة من العلاج، استجمعت قوايّ وتركت نفسي على سجيتها لكتابة هذه الخواطر لنفث هذه المشاعر المضطربة، والأحاسيس المهتزّة، والأفكار التائهة، عذرا لغياب الإحالات والهوامش.
أولاد أحمد من طينة الشعراء الكبار
لا أقول جديدا إذا سجلّت أنّ أولاد أحمد من طينة الشعراء الكبار، لامس منزلتهم، حمل في دواخله شيطانهم، خامرته مثلهم هواجس النبوّة وجنون الخلق والإبداع، وأرهقته شأنهم معاناة تبليغ آلامه، وعذاباته، وتمزّقاته، وأحلامه، وأماله، وأفراحه، وأتراحه، وحيرته القاتلة، وجهاده المضني والمتواصل لاكتشاف المعني ، معنى الإنسان، معنى الحياة، وحكايات البداية والنهاية.
يشعر المرء الذي يقرأ تراث كبار الفلاسفة والمفكرين والشعراء والروائيين، أو يشاهد التماثيل ولوحات الرسامين وإبداعات السينمائيين، أو يستمع لروائع الموسيقي، أنه في حضرة أناس اكتشفوا أسرار مملكة الربّ، انتشوا، هم أيضا، بمتعة الخلق والإبداع واستعادوا مشهد التكوين، فبدا لهم الإنسان عاريا كما خلقه الله. كائن عجيب تآلف فيه، عالم الروح بعالم المادة، تلك هي مشيئة الله «ثم جبل الربّ الإله، آدم من تراب الأرض، ونفخ فيه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة» هذا ما جاء في مطلع قصّة خلق آدم في العهد القديم، ووردت في القرآن بصيغة مشابهة «ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (28) فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، (29). فسجد الملائكة كلّهم أجمعون، (30) إلا إبليس أبى أن يكون مع السّاجدين (32) ، قال يا إبليس ما لك ألاّ تكون مع الساجدين، (32) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون، (33) قال فاخرج منها فإنّك رجيم (34) وإنّ عليك اللعنة إلى يوم الدين(35) قال ربّ فانظرني إلى يوم يبعثون (36) قال فإنّك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم، (38) قال ربّ بما أغويتني لأزيّننّ لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين ،(39) إلاّ عبادك منهم المخلصين، (40) قال هذا صراط عليّ مستقيم، (41) إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتبعك من الغاوين، (42) وإنّ جهنم لموعدهم أجمعين (34)» سورة الحجر.
هذا هو الإنسان الذي أعلن الله أنه خلقه، هو مادة بها قبس إلهي، كائن يتنازعه الخير والشرّ ، يشتغل عليه الرسل، يدعونه للاستقامة ويغذّون فيه الجانب الإلهي، ويشتغل عليه الشياطين لإخراجه ودفعه في طريق الضلال. من يزعم أن هذا الإنسان يمكن أن يصبح ملاكا
وخيرا مطلقا عصى الربّ وأساء الفهم، لأنه، ببساطة يريد قتل أدميّة الإنسان ويشوّه خلق الله، لو أراد الله ذلك، لما خلقه مزيجا من الحيوانية والإنسانية، لما خلق فيه الرغبة والعقل، لأبقاه باختصار في الجنّة، ولما جعل للشيطان عليه سلطانا، من يزعم أنّ بوسع الإنسان بناء مملكة الله في الأرض فهو خاطئ لأنه، ببساطة، يضع نفسه في منزلة الله، وينزع منه سلطانه، من يبشرّون بذلك لا يبنون، في نهاية المطاف، سوى ممالكهم، وهي من أسوإ الممالك، إذ تثبت أحدث التاريخ، عموما، أن الممالك التي بنيت باسم الله، قديما وحديثا، كانت الأكثر ظلما وتعسّفا وقمعا، كانت النموذج الصارخ لاغتيال إنسانيّة الإنسان.
لقد كافحت طلائع الإبداع الفلسفي والعلمي والأدبي- منذ غابر الأزمان، وفي كل العصور، وفي كل الأصقاع وفي ظلّ متغيّرات معطى الزمان والمكان - لصنع “الفرد الحرّ” المبدع الخالق، الذي ينذر نفسه ليكتشف أسرار الجمال، وآيات الإبداع في هذا الكون، والذي يلهث، دون ككل، ليكون على صورة الله، ولم لا ؟ ألم يخلق الله الإنسان على صورته؟ هذا الإنسان لم يغادره الحلم لبناء جمهورية شبيهة بجمهورية أفلاطون، أو لتشييد مدينة فاضلة على غرار مدينة الفارابي، أو إقامة خلافة خالصة على غرار ما تخّيله فقهاء الأحكام السلطانية، أو وضع مشروع يحاكي دولة الحق والعقل التي رسم ملامحها هيجل أو صورة مملكة الحريّة التي تخيّلها الزعيم الشيوعي ماركس...
تجسيد فكرة الحريّة، وتكريس مفهوم التقدّم،
كانت هذه مجرّد أحلام، لكن الشيء الأكيد أن الإنسانية، وفي المقدّمة كتائب المفكرين والمبدعين، كدحت كدحا، وراكمت منجزاتها لبنة لبنة، في اتجاه تجسيد فكرة الحريّة، وتكريس مفهوم التقدّم، لا ينبغي أن ننسى العذابات والمآسي التي تحمّلتها الإنسانية، ولا تزال، من أجل تحرير البشريّة من الرقّ، من سلطان رجال الدين/ من سطوة الخاصة على العامّة... أليست هذه المنجزات إشارة أمل، تغذي الحلم بغد أفضل . جدارة الإنسانية أنها لامست، في العصر الحديث، وبعد كل تلك المعاناة ،جوهر ذلك الإنسان الذي خلقه الله على صورته، أدركت، أو بصدد إدراك، كنهه.
تظافرت مكاسب عصر النهضة، وانجازات الثورة البريطانية الهادئة، وفكر الأنوار، وإضافات الثورة الأمريكية للتبشير بالعالم الجديد، ثم جاءت الثورة الفرنسية لتصدع بالحق، لتتلو على مسامع البشرية «وثيقة حقوق الإنسان والمواطن»، إنجيل الثورة البرجوازية، تلك الوثيقة التي غيرّت وجهة الإنسانية وقطعت الخطوة الحاسمة في مسار خروج الإنسانية من عهود العبوديّة إلى مملكة الحريّة، ثم جاءت الثورات الاشتراكية وثورات التحرّر الوطني لتقحم مفاهيم المساواة، والعدالة الاجتماعية والبحث عن السعادة في جدول الأعمال .
التقط الفيلسوف «هيغل» هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الإنسانية فقال «كانت الثورة الفرنسية، الحدث الذي اتخذ الرؤية المسيحية للمجتمع الحرّ القائم على المساواة، ونقلها من السماء إلى الأرض . ولدى قيامهم بهذه الثورة، خاطر العبيد القدامى بحياتهم وبرهنوا بهذا العمل أنهم تجاوزوا الخوف من الموت الذي استخدم في الأصل ليجعل منهم عبيدا. وبعد ذلك قامت جيوش «بونابرت» الذي أصبح فيما بعد نابوليون يحمل مبادئ الحريّة والمساواة إلى بقية أوروبا. فالدولة الديمقراطية الليبرالية الحديثة التي أبصرت النور إثر الثورة الفرنسيّة كانت – بكل بساطة – تحقيقا للمثل الأعلى المسيحي حول الحريّة والمساواة، كان ذلك يشكّل اعترافا بواقع أنّ الإنسان هو الذي ابتكر الإله المسيحي في مكانه، وأنه هو الذي يستطيع إذا إنزال الله على الأرض، لكي يحيا في البرلمانات والقصور الرئاسية وفي بيروقراطيات الدول الحديثة».
وقال ماركس في ذات الاتجاه «إنّ ما ميز الحقبة البرجوازية عن غيرها من الحقب التاريخية أنّ كل ما هو ثابت عميق التجمّد من العلاقات المرتبطة بالآراء القديمة المتحيزة قد أزيل، كل العلاقات المستجدّة تصبح قديمة قبل أن تتحجّر، كل ما هو صلب يذوب في هواء، كل ما هو مقدّس قد تدنّس، وأصبح الإنسان أخيرا مجبرا على مواجهة حياته الحقيقية، وعلاقاته بغيره من البشر بأحاسيس واعية».
الشعراء العرب المجددين والمعاصرين وأزمة مثقفي العالم الثالث
موجة الشعراء العرب، المحدثين والمعاصرين، ممن رفعوا راية التجديد وعانقوا أحلام الإنسانية الجديدة وأولاد أحمد من بينهمم عاشوا في خضم تداعيات تلك التحوّلات الكبرى على المجتمعات العربية والإسلامية، مجتمعات لم تعش لا ثورة علمية، ولا ثورة دينية، ولا ثورة فكريّة، ولا ثورة ثقافية، قطاعات مهمّة من نخب هذه المجتمعات ترى، ولا تزال، المستقبل في الماضي، وتزعم أن مشروعها لإحياء نظم الماضي في الحكم، والأسرة، والتعليم، وإدارة الاقتصاد، وتنظيم المجتمع...هو الحلّ وأنه السبيل الوحيد لاخراج الإنسانية من الشقاوة إلى السعادة، ومن الظلمات إلى النور.
في هذا تحديدا تكمن أسرار المآسي المضاعفة، والوعي الممزق، والحيرة غير المتناهية، التي تعيشها النخب النيّرة والقوى الحيّة في العالم العربي والإسلامي. حملة فلسفة الأنوار، على اختلاف مدارسهم يقولون: لا سبيل للنهوض بالعالم الإسلامي، ولن يعيش المسلمون عصرهم إلا بإدراك أسرار نهضة الغرب والأخذ بأسباب تقدمه، «استرداد الهويّة» ومواجهة الغزو الاستعماري ليسا سوى نقطة انطلاق لوضع هذا العالم على سكّة الحريّة والتقدم، وتساءل السلفيون بدورهم، في حيرة وتعجّب، كيف أصبح هذا العالم فردوس الكفار وجحيم المؤمنين؟ ألسنا خير أمّة أخرجت للناس؟ أليس ديننا خاتم الأديان؟ أليس نبينّا خاتم النبيّين؟ الإشكال أنّ إجابتهم كانت دوما جاهزة وبسيطة، أيضا، تشطب الواقع وتنظر ما وراء الحجب: تأخرنا، ببساطة، لأننا فرّطنا في ديننا.
أولاد أحمد وغيره من أصناف المفكرين والمبدعين والأحرار يعيشون هذه المفارقات التاريخية ويعانون، في العمق، ما بات يوصف بأزمة مثقفي العالم الثالث، أسلافهم في أمم أخرى عاشوا نفس الضّائقة، لكن كان يغمرهم، وبقوّة، أمل الخلاص، كانت الأرضية سانحة وكان الحاضر يؤسّس، فعلا، للمستقبل، ويؤكد لهؤلاء أنهم في مجرى التاريخ.
أمّا مثقفونا فيكابدون أزمة مضاعفة، أزمة اجتراح طريق الحرية والتقدّم، في بيئة حضاريّة وثقافية فاقدة للمقوّمات التي تساعد على كسب مثل هذا الرهان، كل شيء يدعو لليأس ويعزّز الشعور بالإحباط، الأزمة كانت شاملة، والوعي بضرورة الخروج منها كان أيضا شاملا، السؤال كيف نحقق النهضة من خلال الأصالة. لقد بدت التركيبات التي أثمرها الفكر الإصلاحي ومقاربات، واجتهادات حركات التحرّر الوطني: «الأصالة/المعاصرة»، «الديمقراطية/الحاكمية»، «خصوصيات التكوينات الوطنية/فكرة الأمة العربية والإسلامية، عاجزة عن تجاوز المأزق. بدا هذا العالم العربي والإسلامي، عموما، بعد قرنين من انطلاق عصر النهضة، وما يزيد على نصف قرن عن الاستقلالات الوطنية وكأنه يراوح مكانه، بل تعطي حالته انطباعا قويّا أنه يتراجع إلى الوراء وأنّ قطاعات واسعة من نخبه ومجتمعاته على درجة عالية من التصميم لهدم المكتسبات التي راكمتها شعوب هذه المنطقة بالعرق والدم، بالآلام والدموع، طيلة هذه الحقبة،
تجربة أولاد أحمد الأدبية والغربال النقدي
من هذه الزاوية يمكن أن نقيم أعمال أولاد أحمد «الشعرية منها والنثرية»، فنثره في الحقيقة صورة من شعره جمل مقتصدة، عبارات مكتنزة، إيحاءات متعدّدة، تلاحم بين المضمون والصورة، مراوحة بين التفاؤل والتشاؤم ، انغماس في الشقاوة وإشارات باحتمال السعادة، ممارسة حتى الثمالة لحريّة التعبير وهذا في الحقيقة ديدن الشعراء وكل المبدعين منذ عابر الأزمان».
نزعم أن أولاد أحمد، ومنتوجه موضع هذه الخواطر، قد لامس منذ انغماسه في ملحمة المعاناة الشعرية خلال ثمانينات القرن الماضي أمّهات هذه القضايا، وفصّل فيها القول منذ أن نصّب نفسه على رأس القيادة الشعرية للثورة التونسية. لامسها بريشة الفنان، ومن موقع المبدع، جدارته في سعيه إلى التحرّر من أغلال الإيديولوجيات والانفلات من هيمنة السياسي، كان واعيا بهذه الكوابيس فتحاور، بثقة و من هذا الموقع، مع السياسيين والثملين برحيق الايديولوجيا، سواء من يزعمون أنهم أفضل شرّاح ماركس أو من يزعمون أنهم وكلاء الله في الأرض. يقول «إن الاقناع سيظلّ دائما غاية الايديولوجيين والسياسيين سواء تكلموا وكتبوا، أو عدلوا وقتلوا، ونحن لسنا من هذه الفصيلة، لحسن الحظ، لأننا نؤثر صدق الاحساس وجمالية التعبير على أية غاية تالية لهما».
وفي هذا الإطار تندرج حملته على من يصفهم بالمتاجرين بالدين، يؤاخذهم، ببساطة، لأنهم أمعنوا، برأيه، في تشويه الإنسان وتطاولوا على الذات الإلهية، دعاهم بكل رفق إلى التواضع والاقرار بنسبية الحقيقة، فهم لا الهة ولا حتى أنصاف آلهة، لم يوشحهّم الله بصولجانه، ولم يفوّضهم عباده «لا الصالحون منهم ولا الطالحون» ليكونوا واسطة بينهم وبين الله يوزعون صكوك الغفران على من ولاهم، وينذرون العصاة بجهنّم وبئس المصير
لقد كان مدافعا صلبا على ضرورة فصل الدين عن السياسة فطالما هاجم خصومه مؤكدا أن الله قد عهد لعباده بتسيير شؤون دنياهم، وأن وصف الأديان بأنها ديمقراطية أو غير ديمقراطية لا معني له “ما الذي ستخسره الديانات السماويّة العمودية إذا أعدنا التأكيد على أنها غير ديمقراطية، ولا تستطيع أن تكون ديمقراطية في جميع تطبيقاتها على المجتمعات البشرية، باعتبار أن الديمقراطية هي عمل البشر الأفقيين، النسّبيين، الخطّائين، إضافة إلي أنها نشأت بعد الديانات جميعها. ويتابع «وهل ثمّة اله في التاريخ البشري يقبل بالتصويت على تعاليمه وباستبداله باله آخر عملا بسنّة التداول على الألوهية (السلطة) وهل كان السودان وإيران والصومال، على سبيل المثال، دولا ديمقراطية عندما حكمت شعوبهم أنظمة تدّعي أنّ الإسلام دين مرادفه الدولة».
أولاد أحمد وصورته للثورة التونسية
رسم أولاد أحمد صورة بهيّة للثورة، عرضها عارية دون روتوش أو مساحيق، بدت لنا، كما رأيناها أوّل مرّة، ففنّد بذلك مزاعم الادعياء وأعاد الحق لأهله يقول “إنّ هذه الثورة لا ينسب لها سوى ما ستمنحه لنفسها من ذات وصفات إنها بنت نفسها”. ويقول “لم تقم الثورة التونسية على أيّ مثال سابق، سواء أكان إيديولوجيا أم دينيا، بل قادها الشباب والشعب والشعر من بدايتها إلى أن غادرت طائرة الجنرال سماء تونس، وغادرت حكومات “مدى الحياة” فضاء القصبة، وغادر التجمّع جسد الدولة،، وواضح أن هناك فرقا لامعا ولافتا بين إرادة الركوع وإرادة الحياة”.
دافع عنها دفاع العاشق الولهان عن حبيبته، رآها وقد أدلهم عليها الظلام، وطوقها الأشرار، فجنّ جنونه وعيل صبره، كان مذعورا من اللصوص، وقطاع الطرق الذين ساموها سوء العذاب وعقدوا العزم على اغتيالها أحصاهم، كشف عن هويتهم ، فضح خططهم انظر نصّ «ثعابين الردّة الثلاث».
لكن وعلى الرغم من هول المأساة، واشتداد العتمة، واختلاط السبل لم يغادره الأمل لم يتنكر لفكرة التقدم التي تحكم مجرى التاريخ يقول: «لقد آن الأوان لكي يسترجع التونسيون ثورتهم من نقطة الصفر، بعد أن تبيّن لهم، بالوضوح اللازم وبما لا يدع مجالا للشكّ، أن خطب المساجد والطرق والزوايا والقنوات الدينية الخليجية المتخلّفة، وأن الكتب الصفراء المعروضة على حافة الطرقات، وأن مقولات «طلع البدر علينا» و«الخلافة السادسة» و «التدافع الاجتماعي» و«النموذج التركي» و«الوطن الإسلامي» ليس باستطاعتها أن توفّر لهم لا خبزا ولا أمنا ولا كرامة ولا حريّة ولا حتى قبورا لائقة...»
نقتصر على هذه المصافحة، فلا يمكن لهذه الخواطر أن تفي الرّجل حقّه، يكفي أن نتأمل اللوحة التي رسم فيها اللحظات الثلاث للثورة، والتي تختزل تاريخ تونس المعاصر بأحلامه، وأماله ومآسيه وانكساراته وتختزل أيضا تاريخه كشخص، لنكتشف صدق الحدس، وأصالة الموهبة وروعة الاستشراف، وفيض الإحساس، وجمالية التعبير
كنا نتردّد في ثمانينات القرن الماضي على مقهى «L’univers »، كانت في ذلك الزمن، مقهى الأدباء والشعراء، وأهل المسرح والفنّ، والطلبة، ووجوه المعارضة ، كانت تونس حينها على أبواب عصر جديد لكن لم تغادر، بعد، عوالمها القديمة، لا تزال موسومة بروح جيل الاستقلال وجيل بناء الدولة، وفي يوم من الأيام قابلته صدفة في بهو نزل L’international، وجه مستطيل، حاجبان خفيفان، عينان شهلوان، قسمات ثابتة وكأنها تنشد البقاء، نظرات تختلس الذكاء البدوي، مطعّما بمسحة من التحضّر، فجاءت خلقا عجيبا يحمل بصمات الشياطين كما وداعة الملائكة. كان يتقد حيويّة رغم مسحة الكآبة التي تعلو وجهه.
كنت حقا محظوظا، لأني قابلته في لحظة معبّرة تساعد، ودون مقدمات، على اكتشاف ملامح شخصيته وأسرار نرجسيته وتفرّده. الانطباعات والارتسامات، التي حصلت لي، يومها، لم تفارقني إلى اليوم، فأولاد أحمد بقي في العمق، أولاد أحمد، لم يزده نضج التجربة والانفتاح على عوالم المعرفة إلا مضاء في العزيمة، أخصبت خياله، وعمّرته يقينا بوجاهة الأفكار والمشاعر الجنينيّة التي تلبّست به منذ البدايات، وجدته غاضبا، مهتزا، متوترا، يشكو من المضايقات والضيق، كلمات جريحة، تنزف، أحزان شاعر يعاني الاضطهاد والقمع والتهميش والجحود، وتمزّقات متمرّد أصرّ على أن يمارس حريته ويعيش إنسانيته ألم يقل «الحريّة لا يليق بها أيّ نعت يقيّدها ولو كان هذا من قبيل «الحريّة الحرّة».
وخلافا لظواهر الأمور أولاد أحمد جريء مشاكس، متنطع، متمرّد، متوثّب للخصام والجدل بقدر ما هو خجول، هادئ، وديع وداعة الحمل ، لست بحاجة لجهد كبير لتكتشف في أولاد أحمد حضور البديهة، وحدّة الذكاء، وروح الدعابة، وأن تراه فيضا من التناقضات والأزمات والألوان، ولا غرابة في ذلك ، فهذه الخصال التي تعبّر بكثافة عن تمزقّات الإنسان، وتراوحه بين الحيوان والملاك، كانت، ولا تزال، ينبوع الإبداع والطريق لاكتشاف مجاهل الحياة الإنسانيّة،
يقول الشاعر الكبير عبد الرحمان الأبنودي الذي رحل عنا منذ أيام قليلة «الشاعر ليست له حسابات السياسي، لا يرى للحريّة حدّا. همّه أن يستحضر الإنسان الكامل والمجتمع الكامل، حتى لو أثبتت الأحداث اللاحقة طوباويته، وكشفت المسافة الشاسعة بين الممكن والمنشود».هذه الرّوح التي تتلبّس بالشعراء هي التي تموّن أولاد أحمد بالأمل، وتحثّه على العطاء، رغم كل البلايا والمحن، يبدو وكأنّه يتمثل قول شاعرنا الكبير أبى القاسم الشابي:
سأعيش رغم الدّاء والأعداء كالنّسر فوق القمّة الشماء.
حسب أولا أحمد فإن جماهير التونسيين تعلقت بقصيدته «أحبّ البلاد...» وتعاملت معها كنشيد وطني ثان يردّد في المناسبات الوطنية والأفراح، وأيضا، في المحن وعند الملمّات، حسبه شهادة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات فقد روى أولاد أحمد في الحديث الذي أجراه معه مؤخرا الزميل حسن بن عثمان في جريدة «آخر خبر»، أن الشاعر الفلسطيني محمود درويش حدّثه قال «إنّ ياسر عرفات بعد مؤتمر أسلو وعودة الفلسطينيين من تونس إلى الضفّة الغربية، كان ينشد من تلك القصيدة «ولو شرّدونا كما شرّدونا/ ولو قتلونا كما قتّلونا/ لعدنا غزاة لهذا البلد» وتساءل لماذا لا تكون قصيدة أولاد أحمد «نحبّ البلاد» نشيدنا الوطني الفلسطيني؟»
مصعد باتجاه الهاوية
• الثلاثاء 11 أفريل 2012
طلع الجيش علينا ببيان مدني
فغدرنا بنبيّ وغدرنا بنبي أيها المبعوث فينا إنّه وقع حذاء عسكري
• الثالث والعشرون من أكتوبر 2011
طلع الجهل علينا ببيان فئوي فغدرنا بجبان وغدرنا بتقي
أيها المبعوث فينا إنه وقع ريال قطري ! !
• التاسع من أفريل 2012
طلع الحقد علينا بكلام أخروي فاستجابت شرطة الحي... بقصف نووي
أيها المبعوث فينا: ارحل الآن ... وعش كالمنزوي. ! !