Print this page

من أجل جسر حقيقي للتواصل: تأملات مكتبي في شؤون الكتاب والمطالعة

إنّ المتأمل في هيكلة (Organigramme) الإدارة العامّة للكتاب كإحدى المصالح الخصوصية بوزارة الثقافة مهتمّة بالكتاب و المطالعة ، يلاحظ كلاًّ مرتّبا ، منظّما ، مترابطاً، متسلسلاً إلى حدِّ الصّرامة و مستوعبا لكلّ الفاعلين تقريبا في ثنائية الكتاب و المطالعة من كُتّابٍ و ناشرين و قرّاءٍ

و مستنفدًا لكل الأفعال التي تستدعيها هذه الثنائية : من التشجيع على الكتابة و الإبداع ، إلى التشجيع على النّشر مرورا بالاقتناء و المتابعة الفنيّة للأرصدة و توزيعها ووصولا إلى التّعريف بالكتاب وطنيا و في الخارج و العمل على النهوض بالمطالعة.
و عندماَ نضيف إلى هذا الكلّ المرتّب تلك العدّة من الإجراءات و التشريعات المحدثة للمؤسّسات الثقافية المرتبطةِ بالكتّاب والمؤلفين، و منها على سبيل المثال «المؤسسة التونسيّة لحقوق المؤلّفين» و القانون المتعلق بالملكية الأدبيّة و الفنيّة، إلى جانب جملة الإجراءات المتعلّقة بدعم الورق المستعمل في طباعة الكتاب و الحوافز الممنوحة للكتابة و الإبداع - على قلّتهَا - و لتصدير الكتاب التّونسي و الشّراءات التشجيعية التي جعلتْ من وزارة الثّقافة أهمّ حريف في السوق الدّاخلية بالإضافة إلى تطوّر شبكة المكتبات العمومية حيث أصبحت من الأُولَيَاتِ إفريقيًّا و اضطلاع إدارتها بالخطة الوطنيّة للتّرغيب في المطالعة و التشجيع عليْهَا...
إنّنا نستغرب كيف يكون الحساب الختاميُّ (Le bilan) سلبيًّا في الكثير من جوانبه. فالمشاكل متنوعة وتَعْتَرِضُ كلّ الفاعلين فيما أريدَ لهُ أن يكون منظومة للكتاب والمطالعة، وتعترض كلّ الأفعال التي تستدعيها هذه المنظومة.
والمتتبّع للعينات من آراء الفاعلين في هذ الميدان والتي توردُها الصّحافة الوطنيّة في أكثر من مناسبةٍ بدءًا ، على الأقلّ ، بـ«السّنة الوطنية للكتاب» (2003) و مرورا بـ«الاستشارة الوطنية الموسّعة حول الكتاب و المطالعة «(2009) و تظاهرة «ربيع الكتاب التونسي» و و صولا إلى ما نحن بصدده و نعنى مبادرة «جسور التواصل» يلاحظ ما ملخّصه أنّ الكلّ متضرر و أنّ الكلَّ يَتَّهِمُ الكلَّ.

• بعض العينات لِتَمَثُّلِ بعض المشاكل لا غَيْرَ:
الكاتبُ: يشتكي من النّاشر ذلك أنّ معدّل حجم النشر (700 أو 1000 نسخة) لا يحقّق للكاتب لا رواجا لكتابه ولا مقابلا إذ لا يتمتّع، في أقصى الحالات، سوى بنسبة بين 10 و 12 % من سعْر الكتاب .
كما يدعُو أحدُهُمْ إلى عدم الاطمئنان إلى ما يوُجَد على رفوف المكتبات العموميّةِ بسبب المستوى المتواضع جدّا لبعض العناوين التي يدرجها في باب « التّدجيل و الشّعوذة الأدبيين».

- النّاشرُ : يشتكى من الدّخلاء على المهنة . و يطالب بحصّته من نشر الكتابِ المدرسي الذي يباع دون تردّد و لا مغامرة. ويشتكي من مشكل التوزيع : أحد النّاشرين ذكر أنّه يتعامل مع حوالي 38 موزّعا للكتاب المدرسي ولا يجد موزّعا واحد للكتاب الثقافي ! و يشتكي من ضيق السّوق ويسجّلُ وجود حوالي 60 مورّدًا للكتاب الأجنبي مقابل الغياب الكلّي للمصدرين. ناشر آخر يتّهم المؤسسة التربويّة لأنها لم تَغْرِسْ في الطفل روح المطالعة و آكتفت و تكتفي بتكوين أدمغة ملآنةٍ و لا تفكّر في التميّز . و يتّهم الكتبيّات التي لا تعمل ُ على ترويج الكتاب في الحين الذي تطالب فيه بنسبة 40 % من الغلاف . و لخّصَ ناشر الأمر بقوله «إنّ مشاكل الكتاب مزمنة و متأصّلة « و دعا آخر وزارة الثقافة للتدّخل في مسألة التّوزيع و لم يَنْسَ أن يدعوها أيضًا ، وبالمناسبة ، إلى آقتناء المجموعات بمستودعات وبمخازن النّاشرين لتوجيهها إلى المكتبات العمومية؟! .

- مسؤول وزارة الثقافة : يشتكي من تنامي النّشر على النّفقة الخاصّة الذي بلغ 40 % من مجموع النّشر ، و يفْلِتُ من سلطة لجنة الاختيار بإدارة الآداب و هو ما يجعل القارئ يعثر على عناوين لا تستجيبُ للمواصفات.
المسؤول الآخر ذهب حدّ القول بأننا مازلنا مجتمع تربيّة وليس مجتمع ثقافة. و هذا يفسّر ، حسب رأيه ، النجاح الذي يلقاه الكتاب المدرسي الموازي مقارنة بالكتاب الثقافي.
- المكتباتيّون : يجدُ المكتباتيون أنفسهم ، و هم الوسطاء بمعنى ما ، بين مطرقة العرْضِ و سندان الطلب.
فلمّا كانت المكتبات العموميّة أكبر حريف للكتاب التونسي في السوق الداخلية و أحيانا، و بالنسبة إلى بعض المنشورات ، الحريف الوحيد ، فإنّ ذلك الإنفلات الذي يسِمُ سيرورة الكتاب سينعكس ، بالضرورة و بالسلب ، على مجموعاتها الوثائقية من الكتب.

- يَحَارُ المكتبي : معدّل تداول الكتاب يبقى ضعيفًا . وهو ما يعني أنّ المجموعات تظلّ مدّة طويلة مخزّنة دون استعمال . ظاهرة النّسخ المكرّرة تستفحلُ . مثال مجموعات الدّار العربيّة للكتاب مثال صارخٌ: في محاولة لإنقاذ الدّار المذكورة كان على المكتبات العموميّة سنوات 2008 ،2009 ،2010 أن تستقبلَ ، بقرار خاطئ ، كلّ المنشورات المخزّنة لمدّة ثلاثين سنة في أقبيةِ ذاتِ الدّار : غرقت المكتبات بالنسخ القديمة و المكررّة ، و عاني أصحاب المكتبات كثيرا من الحُكَاكِ، و ظلّت الدار العربيّة للكتاب في حالٍ ليست ، بالأقل ، بالجيّدة تماما!

و يعجز المكتبتيُّ عن تلبية طلبات بعض الشرائح الاجتماعيّة :
شريحة المتحرّرين حديثا من الأميّة مثلا، طلبات سنّ ما قبل الدّراسة ، مطالعات الشباب، كتبُ الأشرطة المصوّرة و طلبات أخرى مستحدثة...
إنّ من مبادئ المرفق العام ، و المكتبة مرفقٌ عامٌ، بل أكثر المرافق العامّة عموميّةً، أن يكون متوافقا و متكيّفا مع الحاجيات المجتمعيّة إذ لا تكون الخدمة المقدّمةُ حقيقيّة إلاّ إذا كانت الحاجيات ملبّاةً باستمرار و بأحسن الأشكال.
إنّ ما خلناه كلاًّ مرتّبا، متسلسلا و مستوعبا لكلّ عناصر ظاهرة الكتاب والمطالعة ولَّد كلّ تلك الإخلالات و المشاكل.
فبالرغم من أنّ كلَّ شيء يبدو أنّه يتوافق مع كلّ شيء فإنّ لا شيء يتوافق في الحقيقة مع أيّ شيء. كل العناصر التي كان من المنتظر ان تتداخل لتبني ذلك الكلّ كانت منفلتةًو مُتدبِّقَةً و معزولةً ومتنافِرةً.
إنّ الإخلالات المسجّلة في منظومة الكتاب تعود إلى سببين:

• الأوّل: ناتج عن أن هذه المنظومة، كنسق، تفتقر إلى العلاقات (relations) و إلى التعالقات (interrelations) بين مختلف العناصر التي تكوّنها . فهي تعمل ككلّ غير متجانسٍ و غير مُعَقْلَنٍ وغير قَصْدِيٍّ ( inintentionnel).

• الثاني ناتج عن أنّها ، كَنَسَقٍ ، لا يستقطب انساقا مجاورةً من شأنها أن تساعد عناصر المنظومة على النموّ و الامتداد.
فبالنّسبة إلى السبب الأوّل ، فإنّ المطلوب هو جعل مختلف العناصر المكوّنة لمنظومة الكتاب لا تستمد قيمتها من حسن تنضيدها أو من تجاورها و تسلسلها و إنّما من استعدادها لأن تتفعّل و تتفاعل و تتآزر كلّها في ذلك الكلّ المنظّم.

• سنأخذ مثالا على ذلك:
تحتوي هيكلة الإدارة العامة للكتاب بوزارة الثقافة على مَرْكَزَيْ ثِقَلٍ متماثلين و متناظرين: إدارة الآداب (من جهة) ، و سنتطرّق إليها في مهامها المتعلّقة بالتشجيع على النشر ، و إدارة المطالعة العموميّة و التي تشرفُ على المكتبات العموميّة (من جهة أخرى). هذا من قبيل الحاصل ، تقولون ، إذْ لا تكون المطالعةُ بدون الكتاب، ولا الكتابُ بدون المطالعة ، بلْ أنّ الأمر بديهي جدّا بالنظر إلى واقعنا ، حيث تعتبر المكتباتُ، كما أسلفنا ، أكبر حريف للكتاب التونسي على مستوى السّوق الداخليّة.
ترى هل توجد علاقاتٌ و تأثيراتٌ متبادلة بين الإدارتين و تحديدا بين الإدارة الفرعيّة للتشجيع على الابداعِ و النّشر بإدارة الآداب و الإدارةِ الفرعيّة للمكتبات بإدارة المطالعة العموميّة ؟! يعنى عندما تُشَجِّعُ الأولى على الإبداع و النّشر هلْ تَأْخُذُ ، بعين الاعتبار و ضمن استراتيجيتها ، حاجيات الإدارة الثانية؟ أو هل أنّ حاجيات الإدارة الثانية تفرضُ على الأولى اتجاهًا مُعيّنًا في تشجيع المبدعين والنّاشرين حسب احتياجاتها وطلبات مستفيديها باعتبارها مرفقا عامًا؟!

• لو تتمّ الأمور على هذا الشّكل على ماذا نحصل؟
لو يربط التشجيع على الابداع و على النشر في جُزءٍ منه بحاجيات المكتبات و بمقاييس و مواصفات معيّنة لتمكّنّا في الأعلى (en amont) من جعل الكاتب و الناشر ينخرطان في عملية إنتاج متواصلة ذلك أن الحاجيات متجدّدةً و لا متناهيّةً. و نكون فتحنا أمامهما مجالاتٍ للعمل متجدّدة و لا متناهية. و لتمكّنّا من تقديم فرصة ذهبيّة لمؤسسات النّشر و المهن ذات العلاقة للعمل عوض التّفكير في التخلّص من المتبقّيات بالمخازن في اتّجاه المكتبات.
و لو تمّ ذلك كذلك لتمكّنّا أيضا ، في الأسفل (en aval)، ونقصد على مستوى مؤسّساتِنَا المكتبيّة من تجاوز بعض الصعوبات ولتمكّنّا من أنْ نكون على مستوى من الجاهزيّة أكبر خُصُوصًا من حيث الاستجابة إلى طلبات الروّاد.
عديدة هي الإمكانات التي توفّرها المكتبات العموميّة و تمثّل مشاريع ثقافية تسمح بحيويّة أكثر لكل الفاعلين في منظومة الكتاب والمطالعة.
يجب الكَفُّ عن اعتبار المكتبات مجرّد مستودعات للكُتُبِ أو مخازن للمتبقيات أو مصبّات فواضلَ.

و يجب على المكتباتيين أن يلعبُوا دورهم كاملاً كفاعلين ثقافيين مدركين لتطلّعات روادهم و حاجياتهم و حاجياتهم المحتملة، وحاملين لمشاريع ثقافية . فهم بهذا المعنى فاعلون محرّضُون (incitateurs) للنّشر و ليس مجرّد موزّعين أو مستهلكين .
كما أنّ النّشر ( صناعة الكتاب) هو نشاط مجتمعي مرتبط برؤية ثقافية و بمشروع ثقافي و طموحات لإشاعة أشكالٍ وطرائق في العيش تطوّر – من جملة ما تطوّرُ – الفعل القرائي الضامن لاستدامةِ نشاط النشر و صناعة الكتاب.

أحد النّاشرين ممّن ْ سبق ذكرهم صرّح بأن مشاكل الكتاب مزْمِنةٌ و متأصّلةٌ. فلو نحيلُ هذا الكلام في سياق «المنظومة» فإنّنا نستطيع أن نقول بأنّ تلك الإخلالات والمشاكل ليست بالعرضيّة أو أنها تأتي بمحض الفطرة أو الصُّدفةِ و إنّما هي اخلالات نسقيّة تنجمُ عن علّة ثابتة فعّالة دوما في الاتجاه نفسه . و حلّها لا يكون بإجراءاتٍ حاثّة خارجيّة و لكن بتنسيق مكوّناتها و تفعيلها و بناء مجموعة من العلاقات بين مختلفِ عناصرها و تحويلها من كُلٍّ غير متجانس إلى كلٍّ معقلنٍ و منظّمٍ مقصديّ (intentionnel).

غير أنّه يجب أن لا نغفل عن ربط المنظومة بأنساق مجاورة من منظومات أُخْرَى تساعد عناصر المنظومة على النموّ و الامتداد. و أوّلُ ما يتبادر إلى الذّهن هو المنظومة التربويّة. و لكنك سريعا ما تفاجأ .فعلى مستوى هيكلة(organigramme) وزارة التربية لا تجد أثرا لعبارة «المكتبة» أو «المطالعة» . فلا تُوكَلُ لها لا إدارة و لا مصلحة و لا حتّى مجَرَّدُ مكتبٍ. فلا شيء يُنْبِئُ عن تصوّرٍ أو عن رؤية بَلْهَ منظومة. و كذلك الأمر بالنسبة إلى النصّ المتعلق بتنظيم الحياة المدرسيّة . و هو أمرٌ يمكن سحبّه على سائر الوزارات باستثناء مؤسسات التعليم العالي و بعض المؤسسات البحثية الأخرى ، فالكتاب و المطالعة غائبان و لا يدخلان في أيّ تصوّر استراتيجي للتثقيف أو للبحث أو للتكوين أو للتكوين المستمر.

إنّ عدم اشتغال المنظومة بشكل نسقي يسمح للعديد من عناصرها بأن تنفلت و تَعْمَلَ منعزلةً و هو ما يشجّع على تداخُل الأدوار و على الطابع اللاّ اقتصادي (l’informel) .. فتعمّ الفوضى، و يغيبُ كلّ تكهّنٍ لسيرورة «المنظومة».

يوسف السعيداني - حافظ عام للمكتبات و التوثيق

المشاركة في هذا المقال