Print this page

في ضيافة الفقه: أصحاب الأعذار في الصوم (2)

5 - ومن السُّنةِ أن يُفطر المسافر في بيته قبل أن يخرجَ منه، فقد كان الصَّحابة رضي الله عنهم حين يُنْشِؤُونَ السَّفر، يُفطرونَ من غير اعتبار مُجاوزةِ البيوت،

ويُخبِرُونَ أنَّ ذلك سُنَّتُهُ وَهَدْيُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا بعكس القصْرِ في الصَّلاة في السَّفر، فلا يبتدَئُ به حتى يخرج من بيته، ويتجاوز بيوت بلده، ويفارق مكان إقامته، من قريةٍ، أو مدينةٍ، أو خيام، وهذا قول جمهور العُلماء من السَّلفِ والخلف.
فعن جَعْفَر بن جَبْرٍ قال: "كنتُ مع أبي بَصْرَةَ الغِفاري صاحب النَّبِيِّ "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفينة من الفُسْطاَط في رمضان، فَرُفِعَ ثُمَّ قُرِّبَ غَدَاهُ، قال جعْفَر في حديثِهِ: فَلَمْ يُجَاوِزِ البُيُوتَ حتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ، قال: اقتَرِب قلتُ: ألَسْتَ تَرَى البُيوتَ، قال أَبُو بَصْرَةَ «أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وفي لفظ أحمد: "فقلتُ: يا أبا بَصْرَةَ، واللَّه ما تَغَيَّبَتْ عَنَّا مَنَازِلُنَا بَعْدُ؟ فقال: «أَتَرْغَبُ عَن سُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» قلتُ: لا، قال: فَكُلْ فَلَم نَزَلْ مُفْطِرِينَ حتَّى بَلَغْنَا مَاحُوزَنَا".
وعن محمَّدِ بن كَعْبٍ أنَّه قال: "أَتَيْتُ أنسَ بن مالكٍ في رمضَانَ وهو يُريدُ سَفَرًا، وقد رُحِلَتْ لهُ رَاحِلَتُهُ، ولبسَ ثيابَ السَّفرِ، فدعَا بطعامٍ فأكلَ، فقلتُ له: سُنَّةٌ؟ قال: سُنَّةٌ ثمَّ ركبَ".

ب- المريضُ والصَّوم:
1 - وقد أباحَ الله تعالى للمريض الفطرَ رحمةً به، وتيسيرًا عليه، ورِعَايةً لضعفه، قال تعالى" وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ "البقرة: 185.
والمرضُ المبيح للفطر، والموجِب للرُّخصَة، هو الذي يؤدِّي مع الصَّوم إلى ضررٍ في النَّفس، أو زيادة عِلَّة، أو يُخشى معه تأخُّر الشِّفاء، ويعرف ذلك بالتَّجربة تجربة المريض، أو من يثق به ممن يُعاني نفس المرض، أو بإِخبار طبيب ثقةٍ في دينه وطبِّه، والأفضل أنْ يكونَ من أهل الاختصاص، أو بغلبةِ الظَّن، وهي كافيةٌ في الأحكام العمليَّة، وإذا صام المريضُ، وتحمَّل المشقَّة، صحَّ صومه وأجزأه، ولا قضاء عليه، إلا أنَّه يُكره له ذلك لإِعراضهِ عن الرُّخصة التي يحبُّها الله تعالى، وقد يلحقهُ بذلك ضَرَرٌ في نفسه، وعلى المريض القضاء بعددِ الأيام التي أفطرَ فيها، بعد أن يعافى من مرضه؛ لقوله تعالى" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " البقرة: 185.

2- والصَّحيح أن الذي يخافُ المرض بالصِّيام، يُفطر مثل المريض، وكذلك من غلبه الجوعُ أو العَطش، فخافَ الهلاك، لزمه الفِطر، وإن كان صحيحًا مُقِيمًا، وعليه القَضَاء؛ قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "ووجوب الإفطار لخشية التَّلفِ معلوم من قواعد الشَّريعة كُلياتها وجزئياتها؛ كقوله تعالي: " وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" النّساء: 29، و"فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ "التغابن: 16، وحفظ النَّفس واجبٌ، ولم يتعبد الله عباده بما يُخشى منه تلف الأنفس، وقد رخَّص لهم في الإفطار في السَّفر؛ لأنَّه مَظنَّة المشقَّة، فكيف لا يجوز لخشية التَّلف أو الضَّرَر.

يتبع

المشاركة في هذا المقال