Print this page

مسرحية «صناديد» إخراج مروان الرزقي في قاعة المبدعين الشبان: المسرح سؤال في التاريخ وتساؤل دائم عن الحقيقة

المسرح مبحث تاريخي، هو وسيلة ليعرف جيل اليوم تاريخه بطريقة مختلفة وبسيطة، سرد لأهم الاحداث التاريخية والثورات التي قام بها التونسيين لاجل حريتهم

من كل اشكال الاستعمار والعبودية تسرد من خلال التمثيل والغناء والرقص فيكون العمل مسرحيا مثل كتاب تاريخ مفتوح امام المتفرج ينهل منه ويستزيد، هكذا يمكن تقديم مسرحية «صناديد» للمخرج مروان الرزقي والتي عرضت ضمن فعاليات مهرجان مسرح الهواية الذي نظمه مسرح الاوبرا و قطب المسرح بمدينة الثقافة.

«صناديد» لجمعية محمد الزرقاطي للمسرح وفنون الفرجة، الجمعية التي تاسست منذ 1939 واهتمت بالمسرح كفعل مقاومة للمستعمر وبعدها اصبحت الفرقة لبنة اساسية في مسرح الهواية وتعبيرة ابدية عن الحرية والمسرح مطية للمقاومة والحرية والتعبير عن الشواغل الوطنية والانسانية من خلال الفن الرابع العمل من أداء: عبد المجيد جمعة وعبد الرزاق بن مصطفى وطارق الزرقاطي و محمد العتيري، وراوية الجالصي، ومروان الرزقي، محمد طرميز وأنس طيمومي وسيف الدين نويرة وسينوغرافيا لطفي بن صالح.

رحلة في التاريخ من خلال التمثيل
تنبعث الموسيقى هادئة لتعلن عن بداية العرض،الموسيقى رحلة في الزمان والمكان، الموسيقى وسيلة لاكتشاف اغاني الاجداد ومدى تاثيرها حين نسمعها اليوم، الموسيقى في مسرحية «الصناديد» كانت وسيلة ليتعرف الجمهور على ملامح شخصيات تلك الفترة، تختلف الموسيقى حسب الجغرافيا فموسيقى الحاضرة هادئة وعادة ما تكون بعض الاغاني ذات الطابع الاندلسي وموسيقى الفرنسيين عبارة عن مقطوعات من اشهر الايقاعات الكلاسيكية اما هناك بعيدا عن المدن حيث توجد النجوع والعروش فالموسيقى صاخبة تشبه ثورات داخلية تعتمل في قلوب الرجال الصناديد والحرائر الرافضات للظلم والضيم، الموسيقى في المسرحية فعل ابداعي رئيسي منه نتعرف على طباع التونسيين الحقيقيين ابناء الارض ومالكيها، الموسيقى مبحث جمالي عمل عليه مخرج العمل ليكون متماهيا مع الفترة التاريخية المقدمة.
«صناديد» مسرحية ابطالها من الهواة هي بحث في التاريخ الشفوي والمكتوب ومحاولة لاعادة استقراء التاريخ في علاقة بثورات العروش والقبائل امام البايات ونظامهم الظالم والجائر، تتبع لشجاعة اهل العروش وفرسانهم امام جبروت الباي واسياده من «الباب العالي» هي ايضا دراسة سيوسيو_ثقافية تفكك شيفرات الحكم والتناحر بين ابناء العم والاخوال لحكم تونس، عمل موشى بالتاريخ يبحث فيه ويقدمه من خلال فعل جمالي مختلف هو المسرح.
«صناديد» هي قصة الصراعات لاجل الحرية التي قامت بها العروش التونسية اثناء حكم الحسينيين، بداية من ثورة «علي بن غذاهم» وصولا الى هبة كل العروش التونسية ضد سياسة البايات والمجبى المفروضة عليهم، هي صرخة للحرية والحياة بكرامة في ارض الاجداد «ماذا تريد يا خليفة الباي، وحدك قلت ارضنا موش ارض الباي، وخيراتها لنا وحدنا وليست للباي او حاشيته» كما يقول الشيخ في المسرحية، «صناديد» محاولة لتفكيك الثورات العديدة التي قام بها العروش وفرسانهم ومحاولاتهم المتواصلة لاثبات احقيتهم في الارض لانهم اصلها هم تونسيون ام عن جد وليسوا اتراك او خليط من العبيد والجواري جيء بهم الى الايالة ليصبحوا اصحاب المكان، وفي الوقت ذاته تكشف المسرحية الصراعات الداخلية والمتواصلة بين العروش والدماء الكثيرة التي انهكت وحدتهم وجعلت البايات وجيوشهم ينتصرون على اصحاب الارض ويفرقون شملهم.
المسرحية تنقل الوقائع التاريخية بطريقة مبسطة، ينتقلون على الركح من حيّز جغرافي الى اخر من خلال الاضاءة والديكور فالأحداث التي تجري في الحاضرة تحديدا قصر الباي يعبر عنها بوضع كرسي احمر اللون وهو كرسي العرش اين تسمع فقط «السمع والطاعة» وهي الجملة الشهيرة والوحيدة المسموح بقولها للباي «خديم جدنا عثمان طيب الله ثراه» كما يقولون، اما البادية والعروش فلا وجود لأي ديكور فقط اللهجة والغناء وحرية الشخصيات في الحركة في الفضاء الممتد في إشارة إلى عدم وجود اي قيد سياسي او مكاني يقيد ابناء الارياف والعــــروش إلا أرضهم وأحلامهم بحياة خالية من مشاكل عسكر الباي والباب العالي.

الإضاءة أيضا جزء من اللعبة الدرامية وتختلف حسب اختلاف المكان الجغرافي، في القصر تكون الإضاءة في شكل طولي وضيق جدا وكأنها تعبيرة عن كثرة الحدود وتقلص الحرية داخل القصر بسبب كثرة العسكر والدسائس عكس الجغرافيا خارج القصر يتحرك الممثلين في إضاءة مربعة الشكل تتوزع كامل الركح تقريبا وكأنها إشارة الى الامتداد والحرية، فالإضاءة هي الأخرى رسالة من رسائل وشيفرات مسرحية «صناديد» التي تسائل التاريخ وتسأله عن الثورة والأرض والوطن فكرة وطريقة حياة.

النساء الحاكمات الفعليات للبلاد وصاحبات القرار
المرأة لها حضورها في مسرحية صناديد فالمسرحية وان تحدثت عن الصراعات بين العروش وعسكر الباي من جهة والشقاقات والخلافات بين العروش فقد سلطت الضوء على حضور المراة ودورها في الحاضرة والبادية، فالمرأة جزء أساسي في اغلب القرارات السياسية والعسكرية بعضها تتخذها بنفسها واخرى غير مباشرة.

في الحاضرة تحديدا في القصر هنّ الحاكمات الحقيقيات للبلاد، هن اللواتي يحركن البلد ويضعن الخطط العسكرية ويصنعن الدسائس والمؤامرات، هن اللواتي امسكن بزمام الحكم اثناء انشغال الحكام بالطرب واللهو والجواري المتعددات «كنا حاكمات البلاد الفعلية» كما تقول زوجة الباي لزوجها اثناء المصارحة بحقيقتها وحقيقة البلاد ايضا، من خلال المسرحية يعيد المتفرج الدخول الى قصور البايات ويشاهد كمية الفساد وانشغال الحكام عن امور الرعية باللهو وانتقاء الجميلات مما ادى إلى سرعة انهيار البلاد بيد المستعمر الفرنسي (مشهد الرقص والهو وسط انتشار ثورة العروش وتهديدها القريب لقصر الباي)، فالنساء في القصر كنّ من يسيرن الايالة في الحقيقة والبايات كانوا فقط من يختمون تلك الاوامر لا غير «للة» هي الحاكمة الفعلية للبلاد «بني مقام قتل سيدنا، إما تجلس مكانه أو اخبر الحراس انك قتلته» كما تأمر «للة» ابن عم زوجها بالبقاء مكانه حاكما على تونس، لكنها حاكمة نهمة للمال وللانتقام فاغلبهنّ جئن اسيرات وجواري ولا تعنيهنّ تلك البلاد الصغيرة ويسكنهنّ فقط هاجس الانتقام من الباب العالي من خلال ممثلهم باي تونس.
اما خارج الحاضرة في العروش تحديدا توجد عينة اخرى من النساء، نساء اكثر قوة وشموخا، نساء متمسكات بحريتهنّ، حرائر فارسات يتقن الحرب والفروسية، من خلال شخصية «حبيقة» العاشقة والقوية في الوقت ذاته، حبيقة تمثل العديد من التونسيات في تلك الفترة، شخصية نقية السريرة خالية لكنها تتحول الى لبؤة وقت الشدة، «حبيقة» ترفض فكرة «الضرّة» وتخير وجع القلب وانكساره على الذلّ والخوف، امراة فارسة ومقدامة تمنح لشخصيتها مساحة هامة في المسرحية للتاكيد ان التونسيات كنّ ولازلن شامخات وصانعات للمجد.

المشاركة في هذا المقال