Print this page

في مسرحية «الروبة» لحمادي الوهايبي: المحامون والقضاة في ميزان النزاهة والانتهازية

إذا قيل عن المرافعة بأنها «مسرحية صعبة يؤدي فيها المحامي جميع الأدوار»، فإنّ المخرج حمادي الوهايبي قد منح ركح مسرحيته

الجديدة إلى أصحاب «العباءة السوداء» واضعا إياهم تحت المجهر ودائرة الضوء. فكانوا بدورهم أمام محاكمة علنية أمام الجمهور بعد أن كانوا هم من يحكمون على الناس باسم النص وبحجة القانون. فبأي صورة ظهر المحامون والقضاة في «الروبة» ؟
ضمن تظاهرة «قيروان المسرح» التي ينظمها مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان في مدينة الثقافة، كان عشاق الفن الرابع على موعد مع مسرحية «الروبة «، آخر انتاجات المركز بدعم من وزارة الشؤون الثقافية.
انقلاب الأدوار وسقوط الأقنعة
على صوت جلبة أقدام وأصوات داخل أروقة المحكمة وضجيج منبهات السيارت في الطرق المزدحمة في الخارج، ارتفعت ستارة الانطلاق لمسرحية «الروبة». كان افتتاح العرض بمشهد مرافعة في قاعة الجلسات جمع ما بين قاضية ومحامين ومتهم.... وفجأة تحدث المفاجأة/ الكارثة !
لقد انهار سقف المحكمة على من فيه ربما بسبب عملية ارهابية، وربما بسبب الفساد في صفقة البناء ... لتجد القاضية نفسها صحبة المجرم وأربعة محامين في قبو أسفل مقر المحكمة بعد النجاة من موت محقق وقد تناثرت الأشلاء في كل مكان وسالت الدماء وانتشرت الجثث تحت الحطام.
هناك تحت القاع استوى الجميع في الخوف والمصير، ولم يعد من جدوى لا لحفظ المقامات ولا للعلاقة العمودية بين الحاكم والمحكوم ... فالكل سواسية في الدهليز المظلم المخيف المختنق بالرطوبة ورائحة الموت!
بمنتهى البراعة، قلب المخرج الأدوار وبعثر المسلّمات ضمن توليفة من الثنائيات والتناقضات، فمن السطح (قاعة الجلسات) إلى القاع (قبو المحكمة) فقد القضاء هيبته وخسرت المحاماة وقارها... في عتمة ذلك المكان المقرف اختلت موازين القوى. فالقاضية ضربت عرض الحائط بقسمها لتطبيق العدالة، وتخلى المحامون عن تشدقهم بالدفاع عن الحق، والمجرم لم يعد متهما بل صار حبل نجاة الكل يتمسك به ويتوسل له لإخراجه من النفق وإرجاعه إلى ضوء الحياة.
ما وراء «الروبة» يتستّر الفساد
استعار المخرج حمادي الوهايبي من العامية اسم «الروبة» ليَسم مسرحيته الجديدة التي تدور في فلك عباءة المحامين والقضاة على حد سواء. وفي القبو تم تجريد المهنتين من قضاء ومحاماة من الزي الرسمي في تعرية للمستور ما وراء العباءة السوداء.
في ظلام الدهليز الدامس، نزعت الشخصيات أقنعتها وباحت بأسرارها وحتى زلاتها وآثامها، ليتعرّى الجميع أمام بعضهم البعض ويظهرون على صورتهم الحقيقية بكل قبحها وجاهروا بما يبطنون من لؤم ودناءة وانحطاط... فليست القاضية التي تتمسك بمطرقتها كالسيف القاطع سوى زوجة لمهرب كبير مارق عن القانون ولا تطاله المحاسبة. أما المحامون فإنهم يتسترون بـ»روبة» المحاماة لمداراة فسادهم وسمسرتهم بقضايا البلاد والعباد وهو البارعون في الخطابة وإتقان كلمات الإقناع على المقاس في استغلال لثغرات القانون ولعب على أوتار تأويل النصوص. وليس من الغريب أن يسعى هؤلاء المحامين وراء الشهرة عبر الالتحاق بالتلفازات والإذاعات كمحللين ومعلقين على الأحداث، وأن يركضوا وراء الحصانة عن طريق الانضمام إلى القائمات الانتخابية قصد الوصول إلى كراسي البرلمان الحصينة أمام الحساب والعقاب !
ولئن أفشى أبطال المسرحية كل خفاياهم ونواياهم الدنيئة وكشفوا كل أوراقهم إما طواعية أو قسرا... فإنهم في المقابل لم يتخلوا عن انتهازيتهم ومصالحهم الذاتية في المتاجرة بالقضايا والتحالف مع الفساد بكل أشكاله حتى في حضرة الموت وخطر الفناء!
براعة في الاشتغال على رمزية المكان والألوان
دون حاجة إلى ديكور أو بذخ في المتممات الركحية، اشتغل المخرج حمادي الوهايبي على كثافة رمزية المكان والألوان محدثا التناغم بين ظلام القبو واسوداد عباءة مهنة العدالة وسواد نفوس أصحابها وقتامة الوضع العام.
ودون إطالة أو تكرار أو تمطيط ... انسابت «الروبة» في مرونة وتشويق دون أن ملل أو كلل من المشاهدين الذين تفاعلوا بالإعجاب مع العرض طيلة ساعة وربع من الزمن.
لئن اعتمد المخرج على سينوغرافيا «قاتمة» وحكاية «تراجيدية»...فإن «الروبة» لم تخلو من مسحة كوميديا تجلّت على وجه الخصوص في شخصية المحامي الشهير «جاب الله»(أداها ببراعة الممثل نور الدين همامي).
على مستوى الكتابة، جاء نص «الروبة» منسجم المتن والمقصد، مدروس الكلمات والمعاني... ليعلق الحوار بين الشخصيات في الآذان وينفذ الخطاب إلى ما وراء الحجب مستفزا العقل للتفكير وطرح التساؤلات.
في «الروبة» وضع المسرح إصبعه على موطن الداء بلا مجاملة أو مبالغة ليحذّر من تسرب الفساد إلى أجهزة العدالة وتورطها في لعبة المال والسياسة. 

الجذاذة الفنية لـ«الروبة»
• إخراج : حمادي الوهايبي
• مساعد مخرج: ريم الحمروني
• تمثيل: عواطف العبيدي- خلود بديدة – محمد شوقي خوجة - لطفي المساهلي - سامية بوقرة – نور الدين همامي.
• إضاءة:طه الجباري - غسان جاء وحده
• موسيقي: قيس بن مبروك
• الملابس: رشيدة ليوان
• التوضيب الركحي: الأنور المالكي
• قيافة و تجميل:وئام الرحماني

المشاركة في هذا المقال