Print this page

مجموعة القصصية «خيال الموج» لهيام الفرشيشي: صراع بين الكوابيس والإنسان

ونحن نقرأ المجموعة القصصية الجديدة «خيال الموج» للقاصة هيام الفرشيشي الصادرة أخيرا عن الدار الثقافية للنشر، نرى الواقع رمزيا ينعكس في صور الموج

وما يخفى داخله من دوامات، إلى الدرجة التي نتساءل فيها عن ذلك المرج الذي يفصل بين محن الواقع يجسده ماء البحر المالح وشخوصه السلبية تتمثلها الأساطير، وأحلام الشخصيات العذبة لبناء واقع مغاير عودة لرموز فنية تحمل فلسفة إنسانية مثالية تعالج روح الإنسان.

وتشخص هيام الفرشيشي الواقع في هذه النصوص القصصية باقتفاء آثاره في ذاكرة الشخصيات ولاوعيها وأحلامها لخلق عوالم أخرى للموج حين تغوص فيه الشمس في قصة «خيال الموج»: «باغتته صورة الشمس وهي تتكور كقرص جمر أحمر أرسل لهبه، ثم اقتحمت البحر وتمددت فوق الموج فتوهجت بلون ذهبي يغطس في لجج الماء» ، وحين يلامسه المطر في قصة «كوابيس مبقعة بماء المطر»: «وحين كان المبدع العظيم يرفع الستائر الداكنة ويبدع الضوء ويسكب النغم في تراتيل المطر وهو يهدهد الموج ليروي له حكايات قديمة كانت روحي تنصت لمعزوفة كونها». فيحمل الموج في حالته الجديدة رؤى الشخصيات في التغيير وإبداع واقع مغاير ويتصور الموج بصور أدبية وفنية.

وتقوم نصوص «خيال الموج» على ثنائيات متعددة تتراوح بين الواقعي والعجيب، الكابوس والحلم، الوعي واللاوعي في فضاءات تستدعي البحر والجبل والغاب. وتدور أحداثها في فترات زمنية متعددة: الغروب، الليل، الفجر، الصباح، الماضي الطفولي البعيد، الماضي القريب، في زمن اليقظة وزمن النوم وما بين اليقظة والنوم.. محورها شخصيات تكشف نسيج الواقع وأخرى تحملها الساردة فعل التخريب والعنف والنهب والإرهاب والتهريب والترهيب والأوبئة.

واللافت في هذه المجموعة القصصية حضور الخفاش في أكثر من قصة، فهو الخفاش الذي يهدد أصحاب الفكر الحر وكاد المحقق يصل إليه ومن يقف وراءه في قصة «للخفاش أثر» ، وهو «الرجل الخفاش’ العجيب يتسلل بين الأشجار ويأوي إلى المنزل المهجور المسكون بالأرواح. رجل على شكل خفاش يلبس أجنحته ويطير ليلا ليتصنت على الصوت والصدى، لكنه لم يقع في يد الشرطة التي لم تكن لها الأدلة الدامغة في الواقع، بل هو خفاش محكوم عليه بعدم الخروج من الهوة التي أعدت له أو الفضاء الضيق الذي يتحرك فيه: فضاء التهديد والقتل، ليتحول هو نفسه إلى فريسة وتكون نهايته السقوط في خندق من خنادق المدينة المتشنجة..
«حلق بعيدا إلى أعالي السماء. رجمته النجوم ورمت به إلى خنادق العدم».

والسؤال الضمني الأول الذي يباغت القارئ ما علاقة الخفافيش بالموج، وكأن المعنى السحيق للموج ما يختفى داخله من دوامات عبثية، و أي بحث قاده المحقق في قصة «للخفاش أثر» وهو يبحث عن الخفي من المشهد المضطرب:
«كان يوجه نظراته الساهمة إلى البحر وكأنه يبحث في تموجه الصاخب عن هوة سحيقة يحلق حولها الخفاش».

في ترميز واضح لرواسب قديمة عطنة تتبخر وتتكثف من جديد، ثم تغزو الأمكنة والفضاءات وتحاصر الإنسان أينما كان..فتحولت المدينة الهادئة إلى مدينة صناعية متوترة، مدينة الخنادق مدينة مسلوبة الروح بحلول الخفاش في المنزل المهجور المسكون الأشبه بثكنة عسكرية قديمة كمصدر تهديد ورعب وتتحول المدينة إلى قلعة أشباح.
وإن كانت القاصة تلامس نقطة الحلم في قصة «للخفاش أثر»، بمقتل الخفاش فإنها تتخطى الرؤية الطفولية الحلمية للخفاش بل للخفافيش التي لم تعد تهدد أصحاب العقول فحسب بل الإنسان في كل مكان في قصة «رافييل يسرد قصة عجيبة»، بظهور الوباء الكابوسي، فلم يعد الخفاش ذلك الكائن الصغير المسالم في شجرة الذاكرة البعيد عن عالم البشر النهاري، بل تضخم وتحول إلى وباء مجنح ينتقم من آكليه. فهل المقصود هو الإنسان الذي يلتهم السموم وأن كوابيسه ما هي إلا صنيعة لواقعه وما يطغى عليه من عنف...

ففي هذه القصة كانت مدينة الوباء «وهان» الصينية ذات إيقاع صوتي متماثل مع إسم فنان الكوابيس «يوهان هنريخ فوسيلي» 1741 / 1825، صاحب اللوحة الشهيرة «الكابوس» 1782: تصور امرأة جاثم عفريت قبيح على صدرها لتختنق أثناء النوم. ويحتل فضاء اللوحة كل فضاءات الواقع في كل المدن التي غابت عنها الحركة ولازم فيها الناس ديارهم، ثم تتحول الراوية إلى مدينة تزورها حلما في الضفة الأخرى وراء البحر، تقودها لغرفة «رافييل» في فندق من الزمن القديم تعود بها إلى عصور خلت وتكتشف أثناء اليقظة أن الطريق المؤدي لذلك الفندق القديم يشبه الطريق المؤدي للمقبرة في قريتها، وشبهت الغرفة بالعالم السفلي حيث التقت «رافييل» الذي لم يكن إلا رجلا من الزمن القديم التهمه الوباء وقدمه للموت..

وفي اعتمادها على لوحة «الكابوس» كان من أجل إيجاد سند تصويري للأوبئة التي تخنق الأنفاس، كما أن غرفة رافييل لم تغب عنها اللوحات «دلني على غرفة ستائرها داكنة، وعلى جدرانها لوحات زيتية بدا كأنها رسمت منذ قرون خلت، وصورت «رافييل» بصورة قديس أو راهب يحمل روح فنان مما يجعلها تمر لرسام حضر ضمنيا من خلال اسمه ولوحاته وهو الرسام الايطالي رافييل الذي عاش بين 1483/ 1520 وانتقائها له جاء من خلال رؤية أخرى للفن، رؤية افلاطونية مثالية تنحو لتطهير الإنسان والعالم، كما تشير لوحاته في هذه الغرفة إلى لوحة «مدرسة أثينا في غرف رافييل في الفاتيكان» التي أنجزها في الفترة الممتدة بين 1509 و1510 تصور اجتماع الفلاسفة والعلماء من مختلف العصور والثقافات. فالراوية تحلم بالتنقل إلى هذه اللوحة على الرغم من أن الإنسان وإن تغلف بالفنون والمعرفة فهو عرضة لكوابيس الأوبئة مع العجز عن مواجهة سؤال الموت ف»رافييل» بدوره حمله الوباء إلى العالم السفلي.

في هذه النصوص تنجلي رمزية الخفاش المسبب للوباء ويحضر كرمز للكابوس يشل الانفاس. فهو يرتبط بالأساطير والفن و الأوبئة القديمة التي تعود من عصر إلى عصر. وكأنه خرج من أفلام الرعب الأمريكية ليحتل العالم ، مرورا بترسبات اللاوعي إلى الوعي البشري لاستهداف الفكر والجسد..
ورغم ذلك تستمر رحلة الفن.

المشاركة في هذا المقال