Print this page

نقـــد: مراجعة لكتاب: «..أوروبا القرن التاسع عشر في متخيل الرحالة العرب» أو في حدود الانتقال من أليف الغيريات إلى غريبها

بقلم: لطفي عيسى
أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس
ضمن قطاف العودة الثقافية الجديدة صدر منذ أيام كتاب عادل النفاتي «الجغرافيا الثقافية لأوروبا القرن التاسع عشر

في مُتخيَّل الرحّالة العرب» وذلك عن «الدار المتوسطية للنشر» ولهذا المبحث أصرة وثيقة بالتاريخ الثقافي، فقد جاء مكمّلا لباكورة بحوثه ونقصد كتابه الموسوم بـ«الجغرافيا الثقافية لمجال المغارب» الذي عالج من خلاله - وفقا لمنهجيات الانثروبولوجيا التاريخية المخصوصة- مضمون رحلتي «وصف إفريقيا» للحسن الوزان الفاسي و«إفريقيا» لمارمول كاربخال»، وهو كتاب أشاد بمقيمته قراء اللغة العربية بعد أن تولّت دار «إفريقيا الشرق» المغربية نشره قبل سنوات، مواصلا الاشتغال على ذات الاشكالية مع تغيير زاوية النظر، مُتصدرا للإجابة عن السؤال التالي: كيف تمثّلت مدونات الاستطلاع والرحلة العربية ومن وجهة نظر منهجية تحيل على الشروط الناظمة للمباحث الجغرافية الثقافية، الآخر الغربي طوال القرن التاسع عشر؟
ولئن بدت مثل تلك المعاينة الميدانية وذلك الفضول المعرفي غير منطقيين في ظرف اتسم بغلبة الأمم الأوروبية على ما سواها بعد انطلاق الأوروبيين منذ قرون في حركة مدّ وتوسع شملت بقية المجالات الخارجة عن النطاق الاعتباري لقارتهم واندراج العرب ضمن شعوب الشرق المُستهدفة بالاستكشاف والتوطين، فأن ذلك لم يمنع أولئك وفي تجاوز للعائق الثقافي الذي استمر لقرون وحال دون التواصل مع «الآخر» باعتباره كافرا، من السعي وخلال نفس القرن إلى التعرّف على مجريات الأحداث بالضفة المقابلة للمتوسط واتخاذ التجربتين العثمانية والمصرية نبراسا يُحتذى في ارسال الوفود والسفارات بغرض مزيد التعرّف على ما يوجد خارج حدود «امبراطورية الإسلام العالم.
وكانت نتيجة تلك الاستطلاعات وضع تقارير وآثار أدبية متنوعة وغزيرة – جاوز عددها العشرين مُؤلَفا وفق ما أوردته الدراسات المختصة (نازك سايايارد، الرحّالون العرب وحضارة الغرب)- عمل جميعها على تركيب صورة مُحدثة لأوروبا تختلف عمّا تم تداوله من صُور انطباعية قديمة غلّبت الجوانب العجائبية والانطباعية نظرا للاختلاف الديني وللموروث التاريخي الذي ملأته الصرّاعات أو المواجهات بين المسيحية والإسلام. وشملت العيّنة التي استدر الباحث ببالغ العناية مضمونها تسع مدونات غطت المجال العربي والإسلامي المتوسطي، مُتضمّنة مدونتين مغربيتين هما: «التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الإصبنيولية» لأحمد الكردودي، و»إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار» لإدريس بن عبد القادر الجعيدي السلاوي، ومثلهما من تونس: «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» لخير الدين التونسي والجزء الأول من «الرحلة الحجازية» لمحمد السنوسي، في حين شملت المؤلفات المصرية أثرين هما: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لرفاعة رافع الطهطاوي و»السفر إلى المؤتمر» لأحمد زكي باشا، واتصلت العينات اللبنانية بـ»الواسطة في معرفة أحوال مالطا» و»كشف المخبا عن فنون أوروبا» لأحمد فارس الشدياق، فضلا عن «الرحلة الأندلسية» لعلي الورداني التونسي الذي نقل لنا معطيات مهمّة عن زياراته لتركيا وإسبانيا مرورا بفرنسا.
تم الحرص على أن تشمل الإفادات أكبر نطاق ممكن من أوروبا على الرغم من احتكار فرنسا وبدرجة ثانية بريطانيا للجانب الأوفر من عروض هذا البحث المُعمّق، لذلك تسهل ملاحظة حضور نقلة نوعية في مؤلفات الرحلة المنجزة خلال القرن التاسع عشر مقارنة بالمؤلفات الموضوعة قبلها. فقد تراجع الغرائبي والقيمي والعجائبي، بحيث نحا المصنّفون باتجاه تقديم معطيات موضوعية قريبة من الواقع الأوروبي الجديد بكل ما حملته من سمات التقدّم وتطوّر الأسباب المادية والمعنوية للقوة، حتى وإن لم يخل أمر ذلك من والوقوع في الافتتان بمظاهر التمدّن والرقي، سواء ذلك الذي شمل الحياة المادية أو ما اتصل منه برصيفتها غير المادية.
لم تكن صياغة الكتّاب العرب لهذه الآثار بالأمر اليسير نظرا لاصطدامهم بعديد المعوّقات الثقافية والسياسية، ساق الباحث من بينها على سبيل المثال لا الحصر صعوبات التواصل اللّغوي، حيث لم يكن ليتسنى لكتّاب لا يتقن جلّهم غير اللغة العربية أن يصنفوا مدونات تتحدث عن تقنيات وأدوات ومؤسسات حكم وتسيير غربية، بمفردات ومصطلحات في لغتهم الأم؟ لذلك شكّل «العوز اللغوي» والاصطلاحي بالنسبة لمعظمهم فرصة حتى يعمدوا إلى استنباط مفردات مستحدثة لم تعرفها قواميس اللغة العربية، وذلك بغرض تقريب الصورة من المُتلقّي. كما اتصل ذلك أيضا بطرق الحكم والتسيير وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وتطلّب الأمر جرأة غير عادية ومهارة عالية في الصياغة الأسلوبية والقدرة على الاقناع بأن الطريق إلى التقدّم موصُول بتطوير المنظومة التشريعية دفعا نحو إعادة النظر في الطبيعة الاستبدادية المُتّسمة بعمودية مفرطة لعلاقة الحكّام بمنظوريهم.
وقد تم تبويب المعطيات المستجلبة وفق توجّه منهجي يرمي إلى توضيح سجل التمثل، وتعقّب أثر ذلك على المجال وتشكيل مشاهد ثقافية متنوّعة. فقد اصطدم المؤلِفون العرب بمشاهد ثقافية شديدة التباين مع ما ألفوه داخل حدود أوطانهم، الأمر الذي دفع بمعظمهم إلى التعبير عن استغرابهم مع البحث في مُوجبات ذلك التباين وأسبابه بين العالمين. وقُسمت المقاربة المقترحة للمدونة المدروسة إلى ثلاث أقسام كبرى، تعرض أولاها إلى مسألة «المجال والصوّر والتواصل»، راصد خصوصيات الحيز الجغرافي الأوروبي وفق ما ورد ضمن السرديّات العربية بوصفه مجال تحيط به المسطحات المائية من ثلاث جهات ليلتحم بالمجال الآسيوي من جهة الشرق. بينما مثّل البحر البيض المتوسط حدّا فاصلا وحّدت بين ضفافه العوامل الطبيعية والمناخية وفصلت بينها الصور التي ركّبتها الثقافات عن بعضها البعض.
فقد اتسمت نظرة العرب المسلمين للغيرية بالانعزالية والانغلاق بحيث تراجع منسوب التواصل مع الخارج تدريجيا منذ القرن السادس عشر وإلى حدود القرن الثامن عشر. وهو ما مهّد الطريق لظهور صوّر تشابك ضمنها الخيالي مع الواقعي واختلط داخلها التهويم بالعروض السطحية. فقد أسّست الثقافة العربية الإسلامية كغيرها من الثقافات لذاتها المركزية أو العرقية والدينية التي قامت على فكرة الاختلاق السردي لماضي يُشبع تطلعاتها الآنية ويوافق حاجيات القائمين على تلك الرغبات. ويعود ذلك إلى تصرّف مَرَضي نحا باتجاه التمسك بالانتساب إلى ماضي أثير واستخدام ذلك الماضي بشكل منحاز لخدمة الحاضر.
غير أن انقلاب أوضاع المتوسط خلال القرن التاسع عشر وبروز معطيات تؤكد توجه أوروبا نحو التوسّع والامتداد، هو ما دفع بالنخب العربية إلى مزيد المطالبة بضرورة تغيير النظرة السائدة إلى الغيرية غير المألوفة، والقطع مع الانعزال والانغلاق، والاقبال على التواصل مع الآخر وإعادة تركيب الصوّر وتجاوز الأفكار المسبّقة بخصوص شعوب شمالي المتوسط. لذلك عمل عادل النفاتي بعد أخذ المسافة اللازمة للبحث على مرافقة مؤلِفي المدونات التي اشتغل عليها في حلّهم وترحالهم، راصد مواقفهم وأحاسيسهم الممزقة بين الافتتان من جانب، والتأسّف على ما آلت إليه أحوال دولهم ومجتمعاتهم في جانب مقابل، من دون أن يُخْفُوا شعورهم بالاغتراب بل وشدة حنينهم إلى الأوطان.
ولم يكن الغرض من العروض المستجلبة في قسمها الثاني تقديم الواقع الأوروبي المادي في مختلف جوانبه، وذلك باعتبار تعدّد الكتابات التي ألفت في الغرض، ولكن اتصلت همة الباحث بنقل صورة عن الحياة المادية الغربية وفق ما تَمَثَّلَه واضعو مختلف المدونات المختبرة. وهي قراءة مغايرة تدخّل ضمنها العوامل العقائدية والأخلاقية أو القيمية بشكل لافت. فقد تم التركيز على وصف المدينة الغربية من حيث التخطيط والهندسة والمعالم والوظائف التي اضطلعت بها المنشآت العامة على غرار الحدائق والمنتزهات والنزل والكنائس والمسارح والمقرّات الحكومية والبرلمانات والقصور والمستشفيات ودور العبادة والملاهي والملاجئ.
ولم يتم اغفال الحديث عن اللباس الافرنجي وتقليعاته بوصفها إحدى المجالات البارزة للغيرية. وتمت الاشارة إلى الصعوبات التي وجدها مُستطلِعونا في الحصول على «الأكل الطيّب أو الحلال»، لدى توقّفهم عند مكونات الطعام الأوروبي وآدابه وطقوسه، والانبهار بالمستوى التقني الذي بلغه الغرب في شتى ضروب الحياة المادية والفنية والابداعية.
اهتم الباب الثالث من الكتاب بالثقافة غير المادية الأوروبية ووصفها بالتعويل على وجهات نظر عربية. فتم تفكيك مكونات الواقع السياسي والتشريعي الغربي في القرن التاسع عشر بوصفه امتدادا طبيعيا للتحولات السياسية والاجتماعية الذي طالت المجتمعات الغربية، وأبرزها المجتمع الفرنسي بعد انتشار الفكر التنويري الذي تُوّج بحصول ثورة 1789 وظهور التشريعات والقوانين التي قطعت مع التنظيمات القديمة، مُشكّلة مناخا مُحدثا للرقي الاقتصادي والاجتماعي. وعموما فقد كان لجميع تلك التحوّلات صدى حقيقي في مؤلفات الرحالة العرب وتقييماتهم المُتباينة التي تراوحت بين الدعم الجسور والرفض المستعظِم.
كما تم التعرّض إلى الواقع الاجتماعي الغربي وتوصيف أوضاع المرأة الأوروبية، حيث أبانت التقييمات عن وجهين متعارضين: حمل الأول صورة المرأة الفاعلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية المناضلة من أجل بلوغ موقع متقدم في الحياة العامة، في حين اتسم الوجه الثاني باستهجان تمرّدها على النواميس والقيم الأخلاقية أو الضوابط الاجتماعية بل والطعن في تصرفاتها قياسا لـ»عفاف» المرأة الشرقية. أما بخصوص القيم الغربية فقد شدّدت مؤلفات الرحالة العرب على اتسام تصرّفات الأمم الأوروبية بالتحضّر والكياسة وحب العمل والإقدام والتمسّك بالنظافة ظاهرا وباطنا، فضلا عن التعلّق بالعلوم والنبوغ فيها، وذلك بعكس الواقع المعرفي المتردي للمجالات الشرقية التي ران عليها الجهل واكتنفتها الأمية، الأمر الذي دفع ببعض المؤلفين إلى المناداة بضرورة الاقتباس عن نجاحات الغرب العلميّة والبحث عن التبريرات الشرعية الداعمة لمثل تلك الدعوة.
ولم تكن فنون أوروبا وأماكن التسلية وأدواتها غائبة عن كتابات الرحّالة العرب، فقد توسّعوا في توصيف الفنون الغربية غير المتعارضة مع الذائقة الإسلامية على غرار العروض المسرحية والغنائية والموسيقية واللوحات الراقصة، بالإضافة إلى عروض الفرجة والألعاب الرياضية. وشكّلت العودة إلى متون الاستطلاع مناسبة لمراجعة تمثّل الشرق للغرب وتصويب الصور التي تم تركيبها حوله، وعدم الاكتفاء بالتركيز على الجوانب الخلافية في صياغة التاريخ المشترك بين الثقافتين. فالخطابات القديمة التي صوّرت الغرب باعتباره مجال كفر وغدر ودموية قد لُفقت استعارتها أدبيا، وذلك ضمن سياقات طغت عليه الانعزالية والنرجسية والاعتزاز بأمجاد السلف، بحيث طبعت تلك الصوّر الذهنيات الجماعية بل ولايزال جانبا من ملامحها باديا للعيان راهنا.
لذلك يستقيم اعتبار القراءة المقترحة لمختلف هذه المتون الاستطلاعية الطريفة مبنى ومعنى، محاولة جدّية في تحسس الارهاصات الأولى لأشكال التعرّف المتّزن على «الغيريات الغريبة». فالخروج نحو أوروبا قد مثل وفقا هذا المنظور ميلادا لمسار تحوّل عميق طال الذهنيات الجماعية، موسّعا في فهم المُختلف، حتى وإن حصل ذلك في إطار الانفتاح القسري على الثقافات الأوروبية. فقد شكلت لحظة خروج العرب للتعرّف على الغرب سياقا مفصليا مكّن نُخبهم من تجاوز الحواجز النفسية والثقافية التي حدّدت لقرون مجالات «الايمان والألفة» قياسا لمظان «الكفر والغُربة»، الشيء الذي مكّن بلا ريب من فتح باب التواصل مع الأمم الأوروبية والمعاينة الميدانية لظروف معاشها والمسك بحقيقة جديدة مفادها أن أوروبا مجال يشُق التنوّع والتباين مدنه وساكنته، لذلك يتعين الدفع نحو تمتين التواصل مع مختلف أممه وتطوير المعرفة بشعوبه والقطع مع جميع النرجسيات الثقافات المتفوّقة وكبح رغبتها الجامحة في محو الغيرية تحت غطاء نشر قيم الهداية أو توسيع مجال التمدّن.
وفي المحصّلة بدت لنا المعالجة التي اقترحها علينا عادل النفاتي لمدونات الاستطلاع المؤلفة طوال القرن التاسع عشر مشرقا ومغربا، وهي معالجة توسّلت بمناهج الجغرافيا الثقافية والتاريخ الثقافي المقارن، قادرة على انتاج المعنى والدلالة، وذلك من خلال فتح مسالك للحوار الطريف بل وغير المتوقع بين تلك المدونات تجلّت لنا عبر تجاويفها الملتوية ارهاصات الانفتاح على غريب الغيريات ضمن مختلف المجالات المحسوبة على شرق تقصّد الغرب ربطه معرفيا ووجدانيا بتفضيل الانكفاء والسبات الحالم، والوقوف تبعا لذلك عند حدود إيجابيات ذلك الانفتاح وصعوبات تجاوزها أيضا.

المشاركة في هذا المقال