Print this page

هويتنا الدينيّة: التصوف الاسلامي بإفريقية حتى نهاية الفترة الوسيطة

إنّ الدّارس لتاريخ التصوف في البلاد التونسية وجذوره وحركة سير أعلامه الأوائل وتنظيراتهم، في حاجة إلى الرجوع إلى مصادرنا الرئيسيّة واستقرائها

وفقا لمنهجيّة موضوعية وواقعيّة تراعي التجربة الخاصّة بالاسلام عموما والتجربة الصوفيّة المغاربية وبالتّحديد في مركزها الأصلي والأوّل خصوصا وهو ما عُرف تاريخيّا ب «إفريقية» التي شهدت ولادة المؤسّسين الرواد للتّصوف المغاربي. فالخطأ المعرفي والمنهجي الذي يسقط فيه الكثير من الباحثين في دراسة ظاهرة التصوّف هو الخلط بين المصطلحات وعدم مراعاة سياقاتها التاريخية والثّقافية التي أفرزتها تلك التجربة المحلية ومن ثمّة تَبَنّي الاسقاط الاستشراقي في قراءة التّصوف الاسلامي (فقد ظهر مصطلح «التصوف» في الكتابات الصوفية المشرقية منذ أواخر القرن الأوّل الهجري. من ذلك ما روي عن معروف الكرخي الصوفي قوله: «من لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بالتّصوف...» انظر كتاب السهروردي: عوارف المعارف، دار الكتاب العربي، بيروت، 1966، ط1، ص 53). فعلى سبيل المثال نشير إلى الخلط بين المصطلحات لدى المستشرق برانشفيك الذي يستعمل مصطلح: «الميستيسزم – Le mysticisme « وهو التيار الروحي الذي عَرفهُ الغرب في القرن الثاني عشر الميلادي، بدلا من مصطلح «(Soufisme) – التّصوف» الذي يحيلنا على التجربة الخاصّة بالإسلام وهي التي ظهرت في العالم الإسلامي منذ القرن الثاني الهجري/القرن الثامن الميلادي.

أمّا في الغرب الإسلامي وبالتّحديد في إفريقية، فإنّ الدّارس للمصادر الأولى من كتب المناقب التي ظهرت بين منتصف القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي ومنتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي والتي وصلتنا منها بعض الشذرات (وذلك مثل: مناقب «ابن نصرون مروان العابد» (ت340هـ/951م)، ومناقب «السبائي» (ت356هـ/966م)، ومناقب «ربيع القطّان» (ت333هـ/944م)...)، يكتشف التمظهرات الصوفية الأولى بإفريقية عند «أبي حفص عبد الجبّار المسراتي» الذي توفي سنة281هـ/894م، والذي يمكن اعتبار تجربته من أقدم التجارب الصوفية بإفريقية (راجع ترجمته في «رياض النّفوس» للمالكي، تحقيق بشير البكوش، دار الغرب الاسلامي، بيروت 1983، ج1، ص 463 )، إذ تنسب إليه أقوال مشحونة بمفردات صوفية لم تكن معروفة قبل تلك الفترة وتحيل على تجربة الزهد. وذلك مثل قوله: «كنت أخلو لأسلم، ثم صرت أخلو لأنعم، ثم صرت أخلو لأعلم، ثم صرت أخلو لأفهم، ثم صرت أخلو لأنعم» (ابن ناجي، معالم الايمان في معرفة أهل القيروان،تحقيق محمد الأحمدي ومحمد ماضور، طبع المكتبة العتيقة تونس د.ت، ج2، ص127) ولعلّ تعليق التجيبي «الواعظ المؤرّخ» المتوفّى سنة422 هـ/1030م على ذلك بقوله: «كلاما حسنا في المعرفة والحقيقة» (المصدر السابق) يؤكد ريادة هؤلاء في التجربة الصوفية بإفريقية التي تبلورت ملامحها تدريجيا بتبنيها طريق التأمل والنّظر المعرفي باعتباره ركنا أساسا من أركان التصوّف إلى جانب المفردات الصوفية الكثيرة الأخرى مثل: المجاهدة والتّوكل والمحبّة والشّوق والإشارة. وغيرها من المصطلحات التي تحيلنا على المعجم الصوفي، هذا المعجم الذي أغنى وأصل بفضل ثراء التجربة الصوفية المغاربية بدْءًا ب: «مدرسة القيروان» التي تميّزت بخصوصياتها على الصعيد النظري وكذلك الممارسة العمليّة وقدرتها على التّجديد والإضافة إلى النموذج المشرقي رغم وحدة المرجعيّة.

المشاركة في هذا المقال