Print this page

الدراما الرمضانية على شاشة الوطنية: تكريم أم إساءة إلى الشخصيات الوطنية والجيش التونسي!

على الشاشة الصغيرة، تلعب الدراما دورا مهما في تشكيل الوعي وتغيير الأفكار والمفاهيم... ويشتد تأثيرها حين تلامس أحداث

واقعية أو تقتفي أثر وقائع تاريخية أو تتعهد بتكريم مؤسسات أو أفراد. فإمّا أن تعلي المسلسلات شأن هذه الحكايات والشخصيات وإمّا أن تنسف صورتها في الذاكرة الجماعية والمخيال الشعبي... وهنا لن يغفر المتفرج للمخرج زلة كاميرا الدراما أمام دقة الواقع وصرامة التاريخ.
ارتدى مسلسل «قلب الذيب» رداء التاريخ لتحيّة الحركة الوطنية، ولبس «مسلسل 27» ثوب التكريم للمؤسسة العسكرية، فهل نجح الاثنان في هذه المقاربة غير اليسيرة؟

مسلسل «27» هل أحسن تكريم الجيش الوطني؟
يحدث أن تهتز الثقة في الحكومات والرئاسات ولكن يبقى الجيش الوطني بعيدا عن كل المزايدات ومنزّها عن كل التجاذبات وهو الذي أقسم على التفاني في خدمة الوطن والدفاع عن حوزته وحماية مؤسساته... تكتسب المؤسسة العسكرية ثقة كل التونسيين واحترامهم وتقديرهم للتضحيات التي تقدّمها لتونس في كل الأوقات وكل الظروف.
بعد الثورة كان للجيش التونسي بطولات فذة وانتصارات ملحمية رفعت من شأنه أكثر فأكثر في قلوب المواطنين على غرار النجاح في حماية المؤسسات وتأمين الانتخابات والإطاحة بقيادات خطيرة إرهابية وتحقيق الانتصارات عليهم في جبال الشعانبي وسمامة والمغيلة... وتبقى ملحمة بن قردان هي أكبر بطولات جيشنا في شهر مارس من سنة 2016 الذي أثبت فيها للعالم بأسره بأنه حارس الحصن وحامي الوطن بعد الانتصار على كتيبة « البتّار» الإرهابية وإفشال مخطّطها الخطير الذي كان يرمي إلى تأسيس إمارة على شاكلة ما حدث في مدينة الرّقة السورية.

هذه هي بطولات وتضحيات وانتصارات قواتنا المسلحة التي استبشرنا بإعلان المنتج والمخرج محمد يسري بوعصيدة عن تكريمها في مسلسل «27» وانتظرنا أن يوفيها حقها من الشكر والتقدير وأن يحييها على ما تبديه من استبسال و جسارة وشدّة بأس...

كان يمكن لمسلسل 27 أن يستوحي قصته من ملحمة بن قردان الخالدة أو غيرها من الأحداث الواقعية.... ليكون التأثير أقوى والمضمون أقرب من اهتمام المشاهد. ولكن صاحب النص يسري بوعصيدة اختار أن يكرّم الجيش الوطني على طريقته وهو حر في خياراته الفنية والدرامية. ولكن هل كان مسلسل 27 فعلا تكريما للجيش التونسي وتحية لروح شهدائه؟
بعد بث الحلقات الأولى لمسلسل 27 على القناة الوطنية، لم تنج هذه الدراما الرمضانية من سياط نقد المتفرجين الذين وجودوا في هذا العمل غير ما توّقعوا ! وإن يضع هذا المسلسل «فرقة 27» في مجابهة بارونات التهريب وشبكات الإرهاب المرتبطة بعضها ببعض فإنه قدّم هذه الفرقة في صورة هي دون الرصانة والوقار بكثير بل ويغلب عليها التسطيح والمزح وكأننا أمام عمل كوميدي أو هزلي بعيدا كل البعد عن صرامة المؤسسة العسكرية !

وعلى سبيل المثال، تضمنت الحلقة الخامسة من «مسلسل 27 « إخلالات بالجملة أساءت إلى الجيش الوطني بدل تكريمه انطلاقا من الفذلكة والمزاح أثناء عملية مداهمة لمخبأ سلاح مرروا بمواجهة العسكريين للإرهابيين بوجوه معلنة والإعلان عن أسمائهم وصولا إلى رضوخ أحد الجنود إلى طلب الطفل الصغير بإطلاق سراح والده الإرهابي ... وطبعا سجلت هذه العملية في مجملها فشلا للجيش الوطني وإحباطا للمتفرج في الوقت الذي انتظر فيه الكل انتصار جيشنا والتصفيق على بطولاته لا إظهاره في مظهر الخائب، المنهزم والمتذبذب في وضع الخطة والتخطيط...

«قلب الذيب» والعبث بصورة المناضلين والفلاقة !
بعد نجاح الدراما السورية على وجه الخصوص في سنوات سابقة في تحقيق الانتشار الساحق بفضل تناولها لقصص شخصيات تاريخية خالدة وحضارات صامدة، أصبح المشاهد ينتظر بشغف وشوق بث المسلسلات التاريخية لما فيها من سير وعبر. إلا أن حظّ الدراما التونسية مع هذا الصنف العسير من الأعمال التلفزية لم يكن موّفقا في أغلب الأوقات.
بعد أن أخرج سامي الفهري سنة 2018 مسلسل «تاج الحاضرة» تحت يافطة مسلسل تاريخي دون أن يجد له طريقا إلى قلوب المشاهدين، غامر بسام الحمراوي في تجربته الأولى في الإخراج الدرامي بطرق أبواب التاريخ المنيعة ضد كل محاولات التحريف أو التشويه. فلم يسلم بدوره من اللوم والعتب بسبب مغالطات تاريخية لا تقبل التشكيك في مسلسله «قلب الذيب».

سبق أن تمّ تقديم أحداث هذا المسلسل على أنها «تتناول فترة الأربعينات خلال الحرب العالمية الثانية وقبل استقلال تونس، ويتطرق إلى المقاومة التونسية للاستعمار الفرنسي سواء الشعبية من خلال جماعة « الفلاّقة » أو النقابية، وكل ما يتعلق بتلك الفترة من أحداث اجتماعية واقتصادية وسياسية»، ولهذا فإنّ محاولات التهرب من المساءلة التاريخية بدعوى أن المسلسل مجرد «فنتازيا تاريخية» لم يشفع لصاحب الفكرة بسام الحمراوي ولم يقيه من الاستنكار والتنديد.

إنّ صورة المقاومين والمناضلين من «الفلاقة» في «قلب الذيب» خيبّت آمال جمهور التلفزة في معانقة حكايا أبطال تناقل سيرهم المخيال الشعبي وكتب التاريخ في صور الأشاوس والصناديد والأسود على غرار محمد الدغباجي ومصباح الجربوع والأزهر الشرايطي... إلا أن حلقات المسلسل لم تمنحهم لقب «قلب الذيب» فعلا بل جعلتهم أحيانا يعجزون عن صيد مجرد أرنب!

كما لم يأت تناول الشخصيات الوطنية والحزبية المناضلة بأفضل حال من صورة «الفلاقة» في مسلسل «قلب الذيب» على مستوى الخطاب والحوار والتعاطي مع المواقف والأزمات...
إن التعاطي مع الرموز التاريخية في الدراما التلفزية يحتاج إلى التحرّى والدقة والموضوعية حتى لا يلاحق أصحابها بتهمة تشويه وتحريف التاريخ.

المشاركة في هذا المقال