Print this page

منبـر: المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر: شعاره «المضروب» وسياسته الفاشلة

بقلم: سامي بن عامر
عندما تهتز ثقتنا بإحدى مؤسسات الدولة جرّاء ما تسببه لنا من انتهاكات، نكتشف وقتها إلى أي حد أصبح مفهوم الدولة مهدّدا اليوم في بلادنا.

وفي ما يلي، اعرض للقراء في هذا السياق ملف وقائع حادثة عشتها بكل مرارة، إطارها عندما كنت مستشارا بديوان وزير الشؤون الثقافية مكلفا بإعداد المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر بمدينة الثقافة، خلال الفترة ما بين 01 اوت 2017 و31 جويلية 2018 والتي انتهت بتقديم استقالتي من هذه المهام جراء انسداد سبل مواصلة العمل لتحقيق مشروع المتحف، مرفقا الوثائق المؤيدة لتطورات هذه الحادثة.

وما نأمله هو أن تتغيّر تونس قريبا نحو الأبهى.
وما سارع في دفعي إلى عرض موضوع هذا الملف على الرأي العام، هو الضّرر الذي لا يزال يطال مؤسسة المتحف بسبب ما يكشفه هذا الملف من عديد التجاوزات الإدارية وسوء التّصرف، مما حال دون افتتاحه الفعلي. وثانيا الضرر المعنوي الذي لحقني جراءه. وأخيرا المراسلة التي وصلتني عبر الايميل من شخصية سأكشف اسفله عن هويتها، تطالبني فيها بالكشف عن معطيات هذا الموضوع وذلك لما طالها هي أيضا من ضرر سبّبتها لها تطوراته.

ولقد تبيّنت لنا جليا تفاصيل هذا الموضوع، إثر الحفل الذي انتظم يوم الجمعة 10 جانفي 2020 بمدينة الثقافة بمناسبة تدشين وزير الشؤون الثقافية السيد محمد زين العابدين رواقا قدّمه على انه رواق تجاري تابع للمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر ويحمل تسمية رواق «المَقام» بفتح الميم.

والغريب في هذا كله، أن كلمة «مَقام» هذه، هي نفسها التي اقترحتها على السيد وزير الشؤون الثقافية لتسمية المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، وذلك عندما كنت في خطة مستشار بديوانه مكلفا بإعداد هذا المتحف، إلا ان الفارق الطفيف بين التسميتين يتمثل في ان التسمية التي اقترحتها عليه كانت بضم الميم «مُقام» في حين ان التسمية التي أعلَن عنها وردت بفتح الميم «مَقام».

والجدير بالذكر، أن هذه التسمية الخاصة بالمتحف، «مُقام»، مصدرها الاستشارة الموسعة التي قمت بها في تلك الفترة والتي طالت عديد المختصين في مجال فن التصميم والفنون التشكيلية، محترفين وطلبة، والتي مكنتني من تجميع عدد كبير من المقترحات شملت تسمية المتحف وتصورات مختلفة لتصميم شعاره. اما تسمية مُقام، فهي تعود الى مبادرة شخصية للسيدة ايناس دريرة المتخصصة في تصميم الجرافيك وأستاذة بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس حيث اقترحت للمتحف شعارا يحمل الكلمة العربية «مُقام» مكتوبة بالحروف اللاتينية MOCAM والتي تعني بالانجليزية Modern contemporany art musuem. وهذا الشعار مسجل.

وكلمة «مُقام» بضم الميم تعني مكان الفن والفنانين. وما يجعل هذه الكلمة اللاتينية MOCAM مقروءة بالعربية، ما اضافته من حركات الشكل للغة العربية على بعض حروفها: النقطتين على حرف C والضمة على حرف M الأخير للكلمة. مما يجعلها مقروءة من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار.

وقد حظي هذا المقترح مباشرة باهتمامي لتميّزه وطرافته، مما دفعني فورا الى ارساله عبر الايميل للسيد وزير الشؤون الثقافية بتاريخ 16 ماي 2018 الساعة الحادية عشرة واحدى وثلاثون دقيقة مساء، لإعلامه به مع شرح مدقق لمعانيه. ولم أقف عند هذا الحد من الاعلام، اذ ضمنت هذا الشعار رفقة العشرات الأخرى من المقترحات، وثيقة مشروع المتحف التي وجّهتها للسّيد الوزير خلال شهر ماي 2018 بعد أن اودعتها مكتب الضبط، وتولّيت أيضا تقديمها في اجتماع بالوزارة ترأسه السيد الوزير وحضرته إطارات الوزارة. بالإضافة إلى أن هذا الشعار وكل المعطيات المتعلقة بالمشروع، كان كافة افراد فريق العمل الذي اشتغلت معهم ومن بينهم السيد الكاتب العام للمتحف، على إطلاع وثيق بها.

وما يزيد غرابةٌ في هذا الملف، هو أن الشّبه لم يقف عند حد تسمية «رواق المقام» فقط، بل طال الشعار الحالي للمتحف ذاته والذي اكتشفناه أخيرا في الصّفحة المخصصة له، حيث اعتمد على العبارة اللاتينية التالية : MACAM بوضع نقطتين على حرف C مما يحيلنا دون أي شك إلى حرف القاف ويجعلنا نتأكد أن هذه العبارة اللاتينية MACAM التي لا تعني شيئا وهو ما يخالف الأعراف في تسميات المتاحف، تحملنا مباشرة الى كلمة «مُقام» التي وردت في مقترح السيدة ايناس دريرة بضم الميم. والغريب هو أن الدعوة للمشاركة لتصور شعار المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر والتي تم نشرها للعموم منذ بضعة أشهر. لم يتم التنصيص فيه الا على الكلمة اللاتينية MACAM دون أي إشارة للكلمة العربية مَقام.

وما يضفي مزيد الغرابة على هذه المسألة، هو أن النقطتين على حرف C التي نشاهدها اليوم على شعار المتحف في الصفحة المخصصة له على الفاس بوك، قد اُقحِمَتا بعد فوز صاحب الشعار بالجائزة الأولى، وهذا بشهادةٍ من اغلب أعضاء لجنة التحكيم وهم ثلاثة. علما وانه بمجرد اقحامها تصبح عبارة MACAM التي لا تعني شيئا، في علاقة لصيقة بالكلمة العربية مَقام. وهنا بيت القصيد. هنا التحول المفاجئ غير المعلن الذي لم يكن صدفة بل كان يكشف مؤكدا عن تمشٍّ مسبق ومقصود. وهو يعتبر تجاوزا الحقوق التأليف واستغلالا غير قانوني لأمانة تم ايداعها لأعلى سلطة في الوزارة. وهو ما دعا السيدة ايناس دريرة إلى مراسلتي للتعبير عما لحقها من تظلم ومسٍّ بحقوقها الفكرية.

علما وأن هذا النّقل الفاضح، فاشل بالأساس، اذ أنه أهدر ما في الشعار الأصلي من قراءات مختلفة وثرية سواء قرأناه باللاتينية او بالعربية. ثم أن كلمة «مَقام» بفتح الميم، تحيلنا وفق استعمالاتها إلى المقامات الموسيقية من جهة، او الى ما يعرف بمقامات الأولياء الصالحين، وهو ما يختلف في كلتي الحالتين مع محتوى المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر المختص في مجال الفنون التشكيلية. وعلاوة على كل هذا، فشعار MACAM قد سبق أن استهلك.

نعرض كل تفاصيل هذا النقل الفاضح والفاشل، مع التذكير انه والى حد اليوم، لم يتم الإعلان من طرف إدارة المتحف ولا من طرف وزير الشؤون الثقافية عن العلاقة المباشرة بين شعار المتحف الحالي وكلمة مَقام. اذ تم الاكتفاء في هذه المرحلة بإسناد هذه التسمية فقط لرواق المتحف. وكأن ذلك تحضيرا للإفصاح لاحقا عن هذه التّسمية «المضروبة». وان لم يكن الأمر كذلك، فلماذا اذا كل هذا التّكتّم عن تسمية المتحف والمسألة جد واضحة؟

لم أكن أتصور يوما أن وثيقة المشروع المتعلق بالمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، التي اودعتها امانةٌ لدى وزير الشؤون الثقافية، سيتم توظيفها بهذه الطريقة غير الاخلاقية وغير القانونية، علما وان هذا المشروع يتضمن، علاوة عن شعار المتحف، عديد المواضيع ذات العلاقة بحقوق الملكية الفكرية التي تعود لأشخاص مختصين تعاملت معهم وكسبت ثقتهم، كمشروع الإصلاحات المعمارية الداخلية لبناية المتحف لضمان تناغمها مع نشاطه أو ما تعود لشخصي انا والمتمثلة في تصوري للمشروع الكلي للمتحف : تقسيم فضاءاته وبرمجة نشاطه السنوي وغير ذلك ...

وللتذكير، فانه سبق كما ذكرت، أن قدمت استقالتي من وضيفتي كمستشار مكلف بإعداد المتحف يوم 16 جويلية 2018 بعد سنة كاملة من التحضيرات التي وفّرت فيها كل جوانب النّجاح لمشروع المتحف، وذلك بعد أن طَلَب مني السيد وزير الشؤون الثقافية أن أتخلّى عن ملف المتحف لأهتم في المقابل بملفات متحف قصر السعيد والمركز الوطني للفنون التشكيلية والبيانيل الوطني. علما وان كل هذه الملفات لم يتم تناولها البتّة بعد خروجي من الوزارة وإلى اليوم. وفي المقابل أصرّ السيد الوزير على تعيين إدارية خارج اختصاص الفنون التشكيلية على رأس المتحف.

والنتيجة الدرامية التي وصلت اليها هذه المؤسسة التي طالما انتظرناها لإنقاذ آلاف الاعمال الفنية المتهالكة و القابعة في مخازن قصر السعيد، هي كما توقعناها : لم يُفتح المتحف قط رغم البلاغات المتتالية والمُؤكدة على هذا الافتتاح. وها هو يصبح اليوم مقترنا بشعار «مضروب» وما خفي كان أعظم.

كنت اعلم ان السياسة التي انتهجها الوزير لتسيير المتحف ستؤول إلى الفشل. وقد اعلمته بذلك قبل مغادرتي الوزارة وأكدت له أنني سأبقى متابعا لملف المتحف دفاعا عنه وعن قطاع الفنون التشكيلية. وهو ما يفرضه موقعي في هذا القطاع كفنان وجامعي وكمسؤول سابق وحاضر، والعكس لن يكون الا تهاونا مني.

واني اعتذر للسيدة ايناس دريرة عن عجزي على الحفاظ على أمانتها التي اودعتني إيّاها عندما كنت مباشرا لوظيفتي بالمتحف لأسباب تتجاوزني سبق أن وضحتها.

وارجو ان يوضَعَ حدًّ نهائي دون رجعة، لمثل هذه التجاوزات في وزارة الشؤون الثقافية، حفاظا على قدسية الوزارة وهيبة الدولة وضمانا لحقوق الجميع.

وأرجو أيضا ان يرى المتحف انطلاقته الجدية مع قدوم الحكومة الجديدة.

المشاركة في هذا المقال