Print this page

ليس المبتدأ والخبر من «مساكين» النحو

د. توفيق العلوي
أستاذ اللغة بالجامعة التونسية
قرأنا التوضيح المتعلّق بمشاورات تركيب الحكومة الصادر عن رئاسة الجمهوريّة التونسيّة يوم الخميس 16 جانفي 2020،

ولاحظنا أنّ التوضيح مكتوب بلغة سليمة خالية من الأخطاء، ونعتبر هذا تطوّرا مطمئنا وملحوظا باعتبار قيمة مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة التي صدر عنها التوضيح.

غير أنّ اللافت للنظر الفقرةُ التالية الواردة في نهاية التوضيح « وهذه المرحلة من المشاورات يمكن أن تكون مقدّمة لمزيد التشاور في الآجال التي حدّدها الدستور، فهي المبتدأ قبل الاختيار وقبل الخبر، ولا مجال في هذه المرحلة من تاريخ تونس لتأخير المبتدأ وتقديم الخبر».
لقد لفت انتباهنا إيراد المبتدأ والخبر، في « خطاب» سياسيّ، على سبيل الاستعارة بمعناها المعجميّ (أقصد بها في هذا المقال استعارة المصطلح لا غير)، فالمبتدأ حسب ما ورد في الفقرة المذكورة، هو المشاورات المكتوبة، والخبر هو الاختيار،غير أنّ هذه الاستعارة لمصطلحي « مبتدأ وخبر» لم نر فيها المقصود لأسباب عديدة، أساسها لغويّ صرف، وتصوّريّ محض، نكتفي منها ببعضها لا غير دون تفاصيل ليس هذا مجالها.

ولمّا كانت الغاية التعبير عن مجريات مشاورات سياسيّة بمصطلحات نحويّة على سبيل تقريب الصورة للقرّاء، نظرنا إلى التوضيح من الزاوية نفسها لنرى مدى مطابقة هذه الاستعارة للمقاصد، فاللغة هي الأداة التي نرى بها الكون (لنقل تجوّزا الواقع المعيش)، فتسمية الأشياء من أدلّة وجودها، وللأشياء المجرّدة وغيرها مصطلحات تدلّ عليها وتشير إليها، فإذا نزّلنا هذه المصطلحات من درجة تجريدها لمطابقتها الكون وجب الحذر.

وهذه الاستعارة غير مطابقة للمقصد المذكور، ذلك أنّ الخبر وجب أن يكون حاضرا في الجملة مع المبتدأ ليحصل التواصل وإلاّ انعدمت الجملة أصلا، وانتفى التواصل بداهة، فإذا سلّمنا بالاستعارة المذكورة، وأجريناها على الواقع المعيش كانت مجانبة للصواب لأنها استندت إلى مبتدأ ينتظر خبره، وأيّ كينونة لمبتدأ لا خبر له في اللغة ببعدها المجرّد، وفي الكلام ببعده المجسّد في الواقع المعيش ؟ ! إنّ الإخبار في النحو قائم على «الحضوريّة» ببعديها الزمانيّ والمكانيّ، فالتلازم بين المبتدأ والخبر ضروريّ باعتبارهما من أوجه المسند إليه والمسند اللذين « [...] لا يَغنى واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلّم منه بدّ، فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبنيّ عليه»، (سيبويه، الكتاب، ج 1، ص 23.)، والمقصد بالمبنيّ عليه الخبر. أمّا إذا حُذف المبتدأ أو الخبر فالتقدير للمحذوف حاضر بداهة للعارف بالنحو، وحاضر حدْسا في ذهن غير العارف كذلك.

فأن نستعير مصطلحين نحويّين بمفهوميهما لواقع معيش لا يلائمه أمر وجبت مراجعته، فليس المبتدأ والخبرمن «مساكين» النحو وضعافه، فهما لا يشيران فقط إلى البداية وما بعدها، إنّما هما منخرطان في نظام نحويّ مؤسّس على آليّات وقواعد، يحدّدان لنا كيفيّة التعبير عن حاجاتنا ومشاغلنا، واستعارتهما لمطابقة سير المشاورات (الواقع المعيش) تستوجب مراعاة خصائص هذا النظام.

والحقيقة اللغويّة التي نراها أنّنا إزاء إخبارين، لا إزاء متبدأ موجود، وخبر منشود، الإخبار الأوّل حصل بهذه المشاورات الأولى، والإخبار الثاني هو المنتظر، وكلّ إخبار حاصل بداهة بالإسناد بين المبتدأ والخبر، هكذا كلّ إخبار، وليس كذا كلّ خبر منشود منتظر وقد ذُكر مبتدؤُه.

ولمّا بيّننّا مجانبة الاستعارة المذكورة للمقاصد، تبيّن عدم الجدوى من الاستعانة بالتقديم والتأخير، ومع هذا، فإذا سلّمنا فرضا بصواب الاستعارة المذكورة لنرى مدى صواب الاستشهاد باستعارة ثانية هي تقديم الخبر وتأخير المبتدأ، اتّضح لنا عدم مطابقة هذه الاستعارة لسير المشاورات، فلا يستقيم، ضرورة لا اختيارا، أن تكون المشاورات النهائيّة التي ستحدّد اختيار رئيس الحكومة هي الأولى، أي تقديم الخبر، وتكون بعدها المراسلات المكتوبة الموجّهة إلى السيّد رئيس الجمهوريّة، وهي المبتدأ المؤخّر، فها هنا لا تطابق هذه الاستعارة الثانية المجريات في خطّها الزمني وتتاليها المنطقيّ، فالمبتدأ هنا، إن طابقناه بالواقع المعيش فهو باق في صدارته رغما عنّا، والخبر ماكث في موقعه الذي وُجد له رغما عنه، ذلك ما أرادت لهما المشاورات في سير مراحلها. أمّا إذا خلّصنا المبتدأ والخبر من مطابقتها للواقع المعيش، وعادا إلى برجيهما في أعلى درجات التجريد فالصعود إليهما بالحذر المذكور نفسه.

المشاركة في هذا المقال