Print this page

في كتاب «صلصال أمريكي» لناجي الخشناوي: اجتراح للقصة من زند التجديد على ورق التجريب

هي تلك الكتابة العسيرة واللذيدة، وتلك التجربة المرهقة والجميلة، وذلك الجنس السهل الممتنع الذي لا يسلم مفاتيح أسراره بسهولة...

ولعلّ من أجمل ما قيل في تعريف القصة القصيرة اعتبارها: «مدخلا متمرّدا على سجن خطابات السلطة وبلاغاتها، ومعبرا إلى تشييد فضاء رحب، يستعيد المخيّلة الموؤودة، ويحتفل بنكهة اللغة الطازجة وطراوة المعرفة الكاشفة». وأمام هذه المغامرة ، لم يرتبك الكاتب ناجي الخشناوي في طرق أبواب القصة والتسلل إلى أغوارها والنفاذ إلى أعماقها لترويضها فنا وقلما، واستنطاقها شكلا ومضمونا في مجموعته القصصية «صلصال أمريكي»، الحديثة الصدور عن «دار ميّارة للنشر والتوزيع».

نمسك بين أيدينا كتاب «صلصال أمريكي» الذي خف وزنه وثقل حبره، فتحملق فينا بحدة أو بجرأة أو بمشاعر مبهمة - على اختلاف زاوية النظر- وجوه من صلصال لا تشبه الوجوه التي نعرف ولا نعرف ! كما يستفزنا الصلصال الذي بدا وكأنه يحمل العلامة التجارية: «صنع في أمريكا» لإخضاعه إلى عملية عجن وعصر ورفس وإعادة تشكيله على ذوقنا ومقاسنا ومزاجنا...

صلصال بأنامل «يارا» وارتسامات الطفولة
لم يرغب صاحب «صلصال أمريكي» في إرهاقنا لاقتفاء أثر عنوان مجموعته القصصية ومحاولة فك شفراته، بل كان عطوفا علينا ورحيما بنا فكشف لنا كنه الحكاية منذ البداية. إذ تحمل القصة الأولى في هذا الكتاب عنوان « صلصال أمريكي» والذي كان كنزا ثمينا لابنة الكاتب «يارا» بعد أن عثرت عليه في زحمة سوق الأشياء المستعملة. وفي البيت كان للطفلة الفنانة «يارا» جلسة وحوار وجدال مع علب الصلصال الأمريكي لتروّضها أناملها الصغيرة وتفرض عليها ولاء السمع والطاعة بالاستحالة إلى أشكال وأحجام وألوان... فكان الخلق الجميل الذي ألهم الأب - الكاتب استعارة هذه الكائنات من صلصال لتكون عنوان فاتحة قصصه وصورة غلاف مجموعته القصصية... ولا يلبث القارئ أن يتعثر بكرة من صلصال هنا وهناك بين صفحات الكتاب حتى يبقى دائما على العهد والوعد بضرورة التصدي لمحاولات جعلنا عجينة من صلصال تشكلها الأصابع وتبعث بها الأهواء وتتحكم فيها السلطات كيفما تشاء !

رقص ذبيح على نخب قلق وجودي
بعد 10 سنوات من الانقطاع عن الكتابة الأدبية وإن حافظ على تحبير مقالاته الصحفية، يعود الكاتب والإعلامي ناجي الخشناوي بمجموعته القصصية الثانية صلصال أمريكي» بعد مجموعته الأولى «خطوة القط الأسود». فإذا به يصافح القرّاء دون قفازات وبلا مجاملات ومساحيق تجميل بل حمل الحياة كما هي، كما يعيشها ونعيشها وأتى بها إلينا بكل أزماتها وعقدها وبشاعتها... عسانا نساعده في استئصال ورمها الخبيث وترميم وجهها الجميل.

أمام سطوة «صلصال أمريكي» نستحيل إلى شخصيات هشة تتقاذفها المخاوف والهواجس وتحاصرها الدبابات والحروب واقتراب خطى الموت... وقد تحوّل الإنسان إلى وقود للصراعات وإلى دروع للاشتباكات وإلى حطب نار توقدها القوى الاستعمارية الكبرى.

دون مقدمات ولا إغراءات ، لا يلبث الكاتب ناجي الخشناوي أن يأخذ بأيدينا ليرغمنا على مرافقته في عوالم قصصه والانغماس في مناخاتها القلقة والمرتبكة والمضطربة ... لنكتشف كم صرنا بلا قيم ولا مبادئ ولا اختلاف جميل في زمن المجتمع الاستهلاكي وعصر العلب والتعليب والمقاس الواحد «التّاي ستوندار».
هي حياة من جحيم لم يعد يطيب فيها النوم دون تناول «أقراص السيليبراكس»،كما أصبح التبوّل في الفراش مرادفا لفزع يوميات سيطر عليها التشاؤم والإفلاس والأخبار الحزينة.

في «صلصال أمريكي» حاول ناجي الخشناوي تشييد عوالم قصصية بتفاصيل واقعية وهواجس تخييلية في صورة سردية تقترب من العجائبية أحيانا وتلامس سقف السريالية أحيانا أخرى عبر تقنيات التكثيف والترميز والمباشراتية الصادمة ...

قصص من وجع وأرق... ووعي
في «صلصال أمريكي»يراوغنا ناجي الخشناوي في تشكيل قصصه فلا نعلم من أي عجينة نضجت وبأي وصفة طبخت؟ وهي التي تفوح من موقدها رائحة «السيرة الذاتية» ونتذوّق من طبقها طعم جنس «اليوميات. ومن قصة إلى أخرى، يمعن الكاتب في التلذذ بمشقتنا ونحن نحاول مسك خيوط اللعبة السردية بين أيدينا والتمسك بالحبل السرّي ما بين البداية والنهاية... ولكن كثيرا ما نفقد السيطرة على شخصيات وأحداث مرنة كالصلصال ورخوة كالطحالب ومراوغة كالزئبق!

على شاكلة قدرة الصلصال على الذوبان والتكيّف مع الأشكال والتشكل على مقاس القوالب، استعان الكاتب ناجي الخشناوي بوّلاعة من نوع خاص لإذابة الفوارق والحدود بين الأجناس الأدبية وحرق جدران الفصل الوهمي بين الفنون. فإذا بقصّة «الرجل الأصفر» تعزف لنا مقطوعة موسيقية على إيقاع «علب، علب، علب...» و إذا بقصة «الموت الأخضر» تتخذ شكل اللوحة التشكيلية بحقلها الشاسع والباذخ من النباتات والأزهار والألوان... وفي قصة «لا أحد منكم شاهد الجحيم» قد نكون أمام مشهد سينمائي سريالي عن الموت والمقاومة والملحمة. ولكل قصة مدى من الاستعارات والمجازات تنتفض من أسر الورق لتحلّق في السماء دوائر ومستطيلات، معاطف وعلب، دموع وابتسامات...

لم يكن قلم الكتابة في «صلصال أمريكا» أنيقا ومسالما بقدر ما كان شرسا إلى حد العدوانية وجريئا إلى حد الوقاحة وهو يمسك بتلابيب معطف القارئ لينفض عنه الأقنعة ويعرّي وجعه وذعره وفزعه المختبئ تحت أدران الثياب و ادعاء المجاملات والبسمات الصفراء...

جاءت لغة ناجي الخشناوي متقدة كالجمرة ومتحمسة كالثورة ووحشية كالبرية وهي تفيض على بياض الورق وعبث الفراغ فتنفث حمأها في وجه القارئ حتى يستفيق من غفوة زائفة ويتيقظ للنجاة بنفسه في اللحظة الحاسمة.

في مخبر «التجديد»، لبس الكاتب ناجي الخشناوي القفازات والنظارات لخلط الأوراق والأجناس لصنع قصص مؤرقة ومرهقة لكنها في النهاية ممتعة وهي التي وقع ترتيب فوضاها وتركيب قطعها في مصنع «التجريب».

لئن حبّر ناجي الخشناوي في خاتمة قصته «الرجل الأصفر» مايلي: «في الحقيقة أنا لست كاتب قصص، أو صانع خيالات روائية ... إنّ أقصى ما يمكنني فعله الآن هو أن أعثر على آلة التحكم عن بعد وأهمس لكاتب القصص هذا: سيّدي يمكنك إنهاء القصة الآن»، فإن القارئ في نهاية المطاف قد يهمس بدوره في أذن «السيد الكاتب» ليقول: تمهل لا تزال بيننا حروب مفتوحة وحسابات معلقة ومواعيد بلا توقيت... فلمَ استعجلت الرحيل؟

المشاركة في هذا المقال