Print this page

في فيلم «قيرة» فاضل الجزيري يحذّر: إيّاكم و الحرب الأهليّة

بقلم: فتحي الخراط 

منذ اللقطات الأولى من الفيلم الذي يعرض الآن بالقاعات يتملّكك إحساس أن هذا العمل طالع من أحشاء صانعيه،

بخاره مازال يتصاعد، نبضه تراه العين وتسمعه الأذن وينبئ بأنّ المخاض كان عسيرا والولادة أيضا. 

هو فيلم عن العنف وعن الحرب كما هو معلن في عنوانه. ولأن الحرب فيها إراقة الدم فلا وجود فيها  لمنتصر وخاسر خصوصا إذا كانت بين أبناء الوطن الواحد. 

ولأن الفتنة أشدّ من القتل فإن الفاضل الجزيري في فيلمه» قيرة» يحذّر من الفتنة ويوغل في التاريخ ليلتقط واقعة دالّة هي ثورة صاحب الحمار التي حدثت في عهد الدولة الفاطميّة. وهي ثورة أُريقت فيها دماء كثيرة وكانت مغلّفة بغطاء ديني وانتهت إلى الفشل. 

يستدعي الفاضل الجزيري التاريخ لكنه يظلّ في الحاضر، الآن وهنا، ليصنع فيلما ملحميّا تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة وتتزاوج فيه أنماط السّرد السينمائي الذي يعتمد على لغة بصريّة، والمسرحي الذي يعتمد  الحضور المكثّف للممثّل ،والشّفوي الذي يعتمد الحكي والشعر. 

كيف زاوج المخرج بين كلّ هذه العناصر وصَهَرها في عمل سينمائي فيه حرارة وقلق يقضّان مضجع المتفرّج ؟

يواصل الفاضل الجزيري في هذا العمل الجديد تحويل الأعمال المسرحية إلى اعمال سينمائية كما فعل ذلك مع «عرب» سنة 1987 وفي «العرس» سنة1979 مع أعضاء المسرح الجديد. ويبدو أن ذلك من الخيارات الأساسية في مسيرة هذا الفنان متعدّد الأوجه والاهتمامات والأنشطة،غزير الإنتاج،دائم البحث سواء في المسرح أو في السينما أو في الموسيقى. 

سنة 2012 قدّم الجزيري مسرحية «صاحب الحمار» عن نصّ لعز الدين المدني كان أخرجه علي بن عيّاد سنة 1969  لم تلق المسرحية سنة 2012 النجاح المتوقّع بسبب ظروف عدم الاستقرار آنذاك. وعرضت في ثماني مناسبات فقط. وكأنّ الجزيري ظلّ مسكونا بإحساس ان الرسالة التي أراد إيصالها إلى الجمهور لم تصل فقرّر ان يلجأ إلى محمل السينما ليقينه بأنّ امكانية النفاذ الي الجمهور أيسر سواء عبر الشاشة الكبيرة أو الصغيرة. 

والواقع أن فيلم «قيرة» ليس معالجة سينمائية لمسرحية عز الدين المدني التي كانت منطلق المشروع بقدر ماهو محصّلة العمل الجماعي والورشة التي امتدّ عملها شهورا وشارك فيها عشرات الممثلين والممثلات بقيادة المخرج. وواضح ان العمل في صيرورة تطوّره قد نأى عن النصّ الأصلي ولم يبق من رابط بين المسرحية والفيلم إلاّ ما طبع تلك الثوزة من عنف ودمويّة وما آلت إليه من أفق مسدود. 

ولابدْ من التسليم بأن الفيلم يحتاج من المتفرّج إلى جهد خاص لإدراك مضمونه لأنّه ثريّ بالإشارات والإحالات التاريخية التي تخصّ تاريخ تونس. واذ يستدعي الجزيري تلك الإشارات فلأنه يريد ربطها بالحاضر. 

اندلعت ثورة صاحب الحمار سنة 937 ،زمن الدولة الفاطمية واستمرت ثلاث عشرة سنة، تعطّلت في اثناءها الحركة الاقتصادية والعمرانية وعمّت الفوضى دون ان تجني الرعيّة فائدة منها. 

ترتكز الأفلام الملحميّة علي سرديّات تاريخية أو اسطوريّة ويكون انتاجها ضخما ومبهرا بديكورات فخمة وملابس تناسب العصر الذي تتناوله لكن فيلم قيرة» ملحميّ من حيث التناول والكتابة السينمائية وليس من حيث الشكل فهو عابر للأزمنة والأمكنة، يحيلنا إلى القرن العاشر لكن كلّ العناصر في الفيلم من اكسسوارات وملابس واسلحة وعربات تثبّتنا في الزمن الحاضر كما تحيلنا اماكن التصوير إلى أزمنة مختلفة ضاربة في القدم كمائدة يوغرطة او مواضع مرتبطة بحضارات تعاقبت على افريقيّة مثل الرومانية أوالبيزنطية أوالاسلامية كالقيروان والكاف وجندوبة كما لم يفوت المخرج الاستعانة بعناصر الطبيعة، تماما كما في الملاحم الكلاسيكية، كالبحر والسّحاب والبرق. 

في الأعمال الملحميّة التقليدية في المجال السينمائي يحشد صانعو الافلام العناصر المرئيّة التي تجعل المشاهد يصدّق ما يراه بل قد يندمج إلى درجة التماهي مع الأبطال أحيانا لكن الفاضل الجزيري يختار كتابة ملحميّة لا تبغي اندماج المتفرّج وتماهيه بل إنه ينحو منحى تعليميّا بريختيّا يخلق مسافة بين المتفرّج والشاشة ويعمل على نسف العلاقة بين الشاشة و المتفرّج. وكأن المخرج يقول للمتفرّج انتبه واعلم أن مآل الثورة قد يكون الانجرار إلى العنف مادام كلّ فصيل سياسي يعتقد انّه يملك الحقيقة وأن تاريخك وحضارتك لن يشفعا لك فقد أتت الحرب الأهلية على الاخضر واليابس في بلدان حضارتها عريقة وضاربة في القدم مثل سوريا واليمن و ليبيا. 

ويحشد المخرج عناصر تعبيريّة مختلفة لإيصال هذه الرسالةمنها تصوير شخوصه وكأنهم في حتمية قدريّة لا فكاك منها إذ يجعلهم في لقطات قريبة وضيّقة وبلا خلفيّة أو عمق مجال ويُجري على ألسنتهم حوارا متدفّقا أقرب إلى الشِّعر وأحيانا يترك العنان لتلك الشخصيات لتقول خطابا مباشرا مثلما يفعل البشير الهنيدي:
«جلبة إنعاج ماعز، ما فيكمش ذكر
الراس مدنكس مقوّسين الظّهر
صفّ، صفّ، ساكتين طايعين تسرحوا
والكسّابة تحلب» 
وإذا أراد أن يُكسب الخطاب غطاءً دينيّا، يستعير من قاموس الدّعاة الذين يخلطون الدّعوي بالسياسي:
«منطق يجدّ على الحمير
صيغة غد أفضل
جنْات عدن وديان
حليب والعسل أنهار
يستشهدوا بالسّلف الصالح 
ويشهّدوا الأنبياء والرّسل
يحلفوا بسليمان، بابراهيم
بيوسف،بموسى،بعيسى
بالنبيّ الخاتم المختار
مفتاح سرّ الأسرار» 

وتصل المباشرة المتعمّدة والمقصودة إلى ذروتها بما يشبه التحريض ضدّ الخطاب الغيبي الذي تمارسه اطراف بعينها وتبغي من ورائه الوصول إلى الحكم:
« بهايم، لكلكم بهايم
بهايم ترّ
الساق حافية
واللباس شوالق
أكداس، الرّاس عريان
والفم أبخر بالشرّ
كلاكم البرد والحرّ
واللّي يوقف يعاند
يصبح عدوّ ملحد كفر
يتّرجِم بالجمر» 

هذا الخطاب المباشر عالي النبرة الذي يوشك أن يكون فجّا مقصودٌ ومتعمَّد مع سبق الإصرار لاستفزاز المتلقّي تماما كما في المسرح التعليمي او في التراجيديا اليونانيّة الكلاسيكية. والجزيري يمزج ذلك بالصّور واللقطات ذات الألوان الساخنة التي تعيدنا إلى أمجاد التعبيريّة في السينما الالمانية وإلى منجزات التشكيليين التعبيريين ويدعم ذلك بتدخّل الرّاوي بين الحين والآخر حتي تكون الرسالة مضمونة الوصول. 

يبدو الفيلم وكأنه يحتفي بالعنف كما في بعض افلام الحركة. وهذا يطرح مشكلة تعبيرية معقّدة ومركّبة فقد يشعر المتلقّي أن الحوار المنمّق المكتوب بعناية وتدفّق الصّور التعبيريّة الضّاجّة بالشاعريّة والجمال فيهما تمجيد للعنف والانتهاك بمجرّد سطوة الجمال في العناصر المرئية والمسموعة بينما الرّؤية والرسالة بلا شكّ هي إدانة العنف

والتشويه والانتهاك. 

لقد أمكن للجزيري أن يوصل إلينا أن شخصياته المسكونة بالعنف و الأنانية والسجينة في شرنقة الطموح الفردي لا مصير لها سوى االسّقوط في العدم وهو بذلك يدعو إلى نبذ العنف إذ لا أفق ولا خلاص إلا بالحوار والتّعايش. 

وغنيّ عن القول انّ أداء الممثلين من المفردات الهامّة في الأدوات التعبيرية للفاضل الجزيري ويتملكّك إحساس ان الممثّلين لا يؤدّون ادوارا تقمّصوها بل انصهروا في الشّخصيات وتلبّسوها فكان حضورهم مباراة في الأداء المتكافئ دون أن يفقد كلّ ممثّل بصمته الخاصّة فتحيّة لمحمد كوكة وطاهر عيسى بالعربي وسارة الحناشي وعلي وآمنة ويحيى الجزيري وسامي نصري وهيثم الحذيري وخولة الشامخي وفيروز بوعلي وبقية الممثلين والممثلات. وقد بدا واضحا أنهم تشبّعوا بالعمل وتشرّبوه لفرط ما تدرّبوا عليه على مدى شهور في طور الكتابة والتصوّر. 

ولعلّ العنصر الفنّي الذي لا يعلن عن نفسه بنبرة عالية هو الموسيقى التي تبدو منصهرة في العمل، لا يٌشعر المتفرّج بحضورها وإن كان يدرك إسهامها في الكتابة المعتمدة على استغلال عناصر تراثية ممزوجة بمفردات عصريّة من خلال آلة الزّكرة التي تترك مكانها في نهاية الفيلم إلى أغنية «شبابيّة» تعتمد على إيقاعات وآلات حديثة من انجاز علي الجزيري الذي يحاول ان ينحت له مسلكا خاصّا ينأى به عن المسالك المطروقة:
«على طبّة خضرا
سكنوها عبيد
حرثوها هبرة 
حصدوا القدّيد
على طبّة حمرا
 أمّاليها عبيد 
فاضت بالدمّ والقهرة
شعلت كي عرف وقيد» 
وكأننا بالفاضل الجزيري يريد أن يؤكّد في نهاية الفيلم أنّ عود ثقاب يكفي لإشعال الحريق فاحذروا واسمعوا وعُوا. ولسان حاله يقول ألا قد بلّغت اللّهمّ فاشهد.

المشاركة في هذا المقال