Print this page

العرض الأول لمسرحية «عبور» لمنصف زهروني في فضاء التياترو: الجنّة فقط لمن حققوا إنسانيتهم

الجسد والجنس، الجسد والروح، الحلال والحرام، المقدس والمدنس، المجتمع والقانون، الأنا والآخر، الجنة والنار ثمّ الموجود والمنشود، ثنائيات نعايشها ونعيش تفاصيلها،

ثنائيات قد تكون أشد قسوة على العابرين جنسيا، أولئك الذين سكنتهم رغبة التمرد على اجسادهم وتحويل جنسهم حسب إرادتهم، أولئك الذين خلقوا في جنس لكنهم أرادوا اختيار هويتهم الجنسية بكل حرية وخاضوا طريقا صعبة واجهوا فيها كل المتناقضات قبل النجاح في العبور .
«عبور» مسرحية من اخراج منصف زهروني وهي رحلة شخص لا تتطابق هويته الجندرية مع جنسه البيولوجي وهي ايضا الرحلة في الزمان والمكان هي «سيتيكس» النهر المظلم في الميثيولوجيا اليونانية، هي الرحلة والهرب للضفة الاخرى فنحن نعبر ونحن على يقين انّ الحياة حلم يوقظنا منه الموت» هي رحلة نفسية وجسدية قدمتها على الركح امينة بن دوة وسنية الهذيلي.

السينوغرافيا تحاكي تفاصيل ما بعد الموت
صوت لدقات قلب يرتفع تدريجيا، شاشة صغيرة تعكس مسار القلب أثناء أجراء عملية، ستة مجسمات لتوابيت أو هي أسرّة المستشفى وهي تتشابه في الشكل والحجم، صوت دون صورة يقول «شكرا دكتورة»، فأحداث الحكاية تبدأ من عيادة طبية لتحويل جنس المريض.
تختفي الأضواء جميعها وتبقى فقط على الجانبين الأيمن والأيسر، ما يشبه الدائرة داخلها دوامة صنعتها الأضواء، الدوامة ترمز أولا إلى الغيبوبة ثمّ هي الوقت الذي استغرقه الجسد للمرور إلى العالم الآخر حينها تشتعل الأضواء يخرج جسد أنثى ينتفض مرات عديدة على الركح بلباس ابيض وأشرطة المشفى تلف الجسد وتسال «آنا وين، أنا مت؟» ليأتي صوت من بعيد ويجيب مرحبا «تينا، أنت في نهر العبور، يجب أن تحصلي على 777 نقطة لتستطيعي المرور إلى المرحلة القادمة».

فأحداث المسرحية تدور في مكان مجهول، مكان له أكثر من قراءة وأكثر تفسير، هو «نهر العبور» عند اليهود او «الصراط المستقيم» في القرآن و الجسر الفاصل بين عالم الأحياء والأموات عند الزرادشتية، هي ايضا «سيتيكس» العالم المظلم في الميثيولوجيا اليونانية فأحداث «العبور» تعبر بالجمهور إلى عالم متخيل هو العالم الفاصل بين الحياة والموت، مرحلة ما قبل الحساب هناك تكون تينا ترقص وتغني وتطلب من صوت «الملاك» أن يقدم لها النصائح اللازمة للمرور إلى المرحلة القادمة بسهولة.

إلى عالم سرمدي غير ملموس تحمل مسرحية «عبور» الجمهور ليكتشف من خلال رؤية استشرافية للفنان ذلك العالم وينصت الى الحوار بين «تينا» والملائكة التي اخذت مهمة حراستها منذ لحظات الولادة إلى حين موتها، وقبل الحساب وجب على تينا استرجاع شريط الذاكرة، بعدها يمكن الحصول على عدد من النقاط لتتحول إلى المرحلة الأخرى ثم تصبح ملاكةا ومن خلال شريط الذاكرة يكتشف المتفرج أن «تينا» هي محمد ضياء وتوفي أثناء القيام بعملية تحويل هويته الجنسية.

وهناك نوعان رئيسيان لهذه الهوية: الأولى «المتوافقون جنسيًا» أو غير المتحولين جنسيًا «cisgender»، وهؤلاء تتطابق هويتهم الجنسية مع الجنس الظاهر عند الولادة. اما الثانية فالمتحولون جنسيًا «transgender»، وهم أولئك الذين لا تتطابق هوياتهم مع الجنس عند الولادة مثلما حدث مع «محمد ضياء» الذي قرر أن يصبح «تينا» وعلى الركح تكون لعبة الأضواء محرر الأحداث وبها تتسلسل الحكاية لتنقل المتفرج إلى عوالم العابرين.

بين الخاص والعام.. وجع الوطن من وجع مواطنيه
«تينا» الشاعرة، الحالمة والكاتبة، تينا التي ألقي رمادها في البحر حتى تنعم بالحرية الابدية، هكذا اختارت تينا ان تعيش حياتها لعدة مئات من الأعوام، فيعد الموت وقبل الحساب يمكن للروح هناك أن تختار جسد آخر وحياة أخرى وتفاصيل جديدة تعيشها لسنوات أطول لان الزمن في العالم الآخر ليس مثل الزمن في الدنيا والعالم والأرضي لذلك اختارت تينا الشعر لأنه جوهر الإنسان.

«عبور» مسرحية ناقدة ومشاكسة، نص ممتع وبسيط وجسد الممثلة نقل وجع الجندريين والمتحولين والباحثين عن هوياتهم الجنسية أمام قسوة المجتمع وجور الدين وظلم الحرام والخوف من «جهنم وبأس المصير».
«عبور» ليست موجهة لفئة من الناس بل هي ذات بعد إنساني فهي تستشرف ما يمكن أن تعيشه تونس من أزمات انطلاقا من الوضع الاجتماعي والاقتصادي الحالي، فتينا أو ضياء ولدت في 2011 يومها ولدت الثورة التونسية، وفي سن الرابعة دخل إلى الروضة حينها تونس كانت تكتب دستورها الجديد، ثم قتل شكري، وبعده البراهمي فانتخابات بلدية ورئاسية أولى ومع كل حدث خاص عاشه الطفل هناك تحولات جماعية يعيشها الوطن، ففي 2022مثلا تصنف تونس ضمن الدول الأربع الأولى الأكثر فقرا، وفي 2025 يكون هناك اجتماع مع أصحاب راس المال مع مدير البنك المركزي ثم انتشار مرض السيلان في 2028، تتصاعد رقصات «تينا» وهي تستحضر وجع محمد ضياء ففي الثامنة اكتشف انه يحب الفتيات ويقف لساعات أمام جسده يتأمل تفاصيله ويلبس «الكعب العالي» ويحلم بشعر «طويل» وقتها 30تونسيا انتحروا جماعيا في قابس حذو المجمع الكيمياوي.

ففي عبور يجتمع الشخصي بالجماعي، يتماهى الذاتي مع الوطني لتكون وجيعة الذات المرفوضة من المجتمع بتعلّة الحرام والعيب لبنة من وجع الوطن الذي أنهكه أبناؤه المنشغلين بالحلال والجنة وتناسوا خدمة وطنهم.
«عبور» مسرحية تنقد المجتمع التونسي انطلاقا من رفضه للآخر خاصة رفض المتحولين جنسيا أو الباحثين عن هويتهم الجنسية الحقيقية الذين يطلق على حالاتهم «الانزعاج الجندري gender dysphoria».
وهي أيضا صرخة ضدّ المجتمع والعادات والتقاليد والدولة ونداء بضرورة احترام الحريات الخاصة واحترام فئة من المواطنين تبحث عن حريتها وهويتها، مسرحية تنقد وبطريقة لاذعة الوضع الاقتصادي والاجتماعي لتونس ومعه تكالب السياسيين على المناصب متناسين مصلحة الوطن.

الحساب حسب محرار السعادة لا العبادة
في «نهر العبور» حيث تنتظر تينا دورها وبعد شريط الذكريات تستحضر صورا لأشخاص أحبتهم وآخرين نفرت منهم، في نهر العبور وفي انتظار الحساب تتغير المفاهيم وتتغير طريقة العقاب والحسنات أيضا، ففي المسرحية يصبح المرور إلى مرحلة أخرى مرتبطا أساسا بالإنسان، بسعادته بقدرته على تحقيق ذاته وفاعليته ومدى تمسكه بأحلامه ولا بأعماله الصالحة او صلاته الدائمة وعباداته، فحب الذات والعمل على تطويرها والإيمان بإنسانية الإنسان هو طريق السعادة الابدية ،فالشيخ لم يستطع المرور رغم تظاهره بالتدين وعاد الى الحياة، ووالد تينا هو الاخر خسر الرهان رغم التزامه بالصلاة والعادات، بينما تينا تنجح في الاختبار لانها آمنت بانسانيتها وعملت على تحقيق سعادتها وتلك رسالة المسرحية، دعوة مباشرة ليتصالح الانسان مع ذاته.

تظهر شخصية ثانية على الركح، دون ملامح فقط ضوء مشعّ مبهر، هي الملاك الحارس الذي سيسلم المشعل لتينا، وفجأة تعود ضربات القلب إلى الفضاء ومعها صوت الطبيبة يقول «مبروك تينا لقد نجحت العملية، أنت الان أنثى جميلة» فتينا قامت بعملية لجراحة الجهاز التناسلي بعد أن عولجت بالهرمونات لعام كامل،ليتضح انّ الأحداث جميعها حدثت في ذهن تينا، والرحلة الى عالم سرمدي عاشتها الشخصية في الغيبوبة بعد العملية، رحلة ممتعة ومشوقة أبدعت الممثلة في تجسيدها وبتقنيات السينوغرافيا والفيديو والموسيقى انتقل الجمهور من الموجود الى المنشود فلا وجود للمستحيل في المسرح.

المشاركة في هذا المقال