Print this page

يمثّل مصر في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية: «الطوق والإسورة» يحرّر المرأة من قبضة المجتمع الصعيدي

«الطوق والإسورة» كانت في البداية رواية شهيرة لصاحبها يحيى الطاهر عبد الله، فإذا بالسينما تقتبسها سنة 1986 وتنتجها في

فيلم من إخراج خيري بشارة. وفي منتصف التسعينات اشتغل عليها المخرج ناصر عبد المنعم ليحوّلها إلى عرض مسرحي حصد التتويج والنجاح ولكن يبدو أن صاحبها لم يكتف من هذه الرواية ولم يشف غليله فإذا به يعيدها إلى ركح المسرح من جديد بجماليات مختلفة و أطروحات مغايرة. واليوم تمثل مسرحية «الطوق والإسورة» مصر في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية 2019.

من منصة التتويج بجائزة أفضل عرض عربي في مهرجان المسرح العربي بمصر في جانفي 2019، حطت مسرحية «الطوق والإسورة» الرحال في أيام قرطاج المسرحية للمنافسة على التانيت الذهبي. وقد كتب نصها سامح مهران وهي اقتباس عن رواية الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبد الله وقد أخرجها ناصر عبد المنعم. ويلعب أدوارها كل من فاطمة محمد علي ومارتينا عادل وأشرف شكري وأحمد طارق ونائل علي شريف القزاز ومحمود الزيات وشريف القزاز وشبراوي محمد ومحمد حسيب وسارة عادل وسلمى عمر.

عقول من حجر ونساء من وجع
رحى من حجر تدور حول نفسها و تدور في يد امرأة بائسة تطحن الحبوب وتردد في مرارة سيرة ابنها الغائب «مصطفى»... كانت هذه المرأة تلبس السواد ثوبا وتحمل دلالته في اسمها وهي المسماة «حزينة». وغير بعيد من هذه الأم المهمومة التي تلعن حظ الأمومة التعيسة بغياب الولد، كانت ابنتها «فهيمة» تغسل الثياب وتردد ما على شفاه أمها من كلام مر وما في فؤادها من تنهدات وزفرات وشكوى مكبوتة ... وفي أقصى الركن يقبع الأب المريض بلا حول ولا قوّة وقد غلب السعال على لفظه ونطقه.... ولم تطل معاناة الأب طويلا إذ فارق الحياة دون أن يفرح بعودة ابنه مصطفى !

في رحلة شيّقة ومشوّقة، يحملنا مخرج «الطوق والإسورة» إلى مناخات الصعيد المصري وطبيعة يوميات سكان الريف، ذلك «الصعيد» الذي قرأنا عنه في الروايات وشاهدناه في السينما والدراما فإذا به يتجلى أمامنا كائنات من لحم ودم على ركح المسرح الحيّ.
في الأفراح كما في الأتراح، اكتشفنا الصعيد عن كثب في عاداته وتقاليده وأيضا عقده وعيوبه...

لم يشأ صاحب «الطوق والإسورة» أن يجعل من «الصعايدة» مادة دسمة للإضحاك أو التندر بل غاص في تركيبة هذا المجتمع الذي يسلم إلى الرجل القيادة والبطولة ويستبيح حقوق المرأة ويصادر صوتها ويمنع صرختها... فلا غرابة أن تردد شخوص المسرحية تمثلات السلطة الرجالية بأن الرجال قوّامون على النساء، وأن الرجل لا عيب يعيبه... وكل الذنب ذنب المرأة !؟

«الدين أفيون الشعوب»
في البيئة الريفية والمجتمعات الذكورية، يحدث أن يقوى دور رجل الدين بما أنه الحكم الذي يلجأ إليه الخصوم ومصدر العلم والفصل الذي يلجأ إليه أهل القرية... كما يحدث أن ينمو دور الشيخ المشعوذ صاحب المعجزات في زمن الإيمان بالخرافات. دائما وأبدا، تكون المرأة هي المضطهدة باسم الدين والمستغلة بتعلة الاستشفاء الروحي والجسدي...

وقد أبدع المخرج ناصر عبد المنعم في كشف هذا الزيف باسم الدين في مشهد صفق له الجمهور طويلا عندما تهكمت الراويات الثلاث في المسرحية على معجزات الشيخ الوهمية وكراماته الخيالية...

في «الطوق والإسورة» نحن أمام نص شيق وجذاب كتب بعناية شديدة وركح قدّم أطروحات جمالية مختلفة... لكنه في بعض الأحيان يزدحم بالكثافة في السواد والقتامة في الحوار . وهو ما تفطن إليه المخرج فإذا به يدرج من وقت إلى آخر مشاهد «الرواة» الذين كان توزيع ظهورهم ثنائيا في شكل 3 نساء مقابل 3 رجال. كما اختار هذا العرض المصري أن يكون وفيا لروح المجتمع الصعيدي وموقع المغني فيه أو منشد أغاني النوبة بما هي ملاحم تروي الأحداث وتلخص الوقائع، فروّح عن الجمهور بأهازيج و أغان أعادت الجمهور إلى صميم الصعايدة وعمق وجع الإنسان في كل زمان ومكان.

ركح من ضفتين وجمهور إلى نصفين
بمجرد أن تطأ أقدام عشاق الفن الرابع قاعة العرض لمشاهدة مسرحية «الطوق والإسورة» من مصر، سيكتشفون للوهلة الأولى أنهم أمام عرض مختلف ركحيا، فمقاعدهم المعتادة لا تصلح لمثل هذه النوعية من العروض بل أنه عليهم اعتلاء الركح واقتسامه مع الممثلين تحت ما يسمى بـ»المسرح التحريضي» الذي دعا إليه «بريخت» لكسر الجدار الرابع بين الجمهور والعرض المسرحي.

إذا كان جمهور «الطوق والإسورة» محدود العدد وموزعا في صفين متقابلين يتوسطهما ركح ينقسم بدوره إلى ضفتين تتبادل فيهما المشاهد والأدوار ما بين اليمين واليسار. وهو ما جعل ظروف الفرجة غير مريحة أحيانا وتستدعي جهدا خاصا خصوصا من أصحاب المقاعد الخلفية الذين يضطرهم الأمر إلى الوقوف أحيانا للتمكن من اكتشاف المشاهد المسرحية عندما تكون الشخصيات جالسة على الأرض.

وعموما يمكن القول أن الثنائيات المتضادة هي تيمة «الطوق والإسورة» حيث اشتغل المخرج ناصر عبد المنعم على التقابل بين الماضي والحاضر عبر توظيف جيد للسينوغرافيا حيث يسلط الإضاءة على شموخ المعابد الفرعونية وخلودها قديما ، ومن جهة أخرى يعرّي تواضع البيت الريفي الذي كان أشبه بكوخ من قش وتبن اليوم في مصر الحديثة. وكأننا بالمخرج يدفع بجمهوره للتساؤل في حرقة وحسرة: لمَ أصبحت مصر وريثة الحضارة الفرعونية العظيمة على ما هي عليه اليوم؟!

المشاركة في هذا المقال