Print this page

المهرجان الدولي للخيام بحزوة: في الصحراء تكتب كل تلوينات العشق

الصحراء تغري العاشق بزيارتها، امتدادها يدفع الإنسان للتفكير والبحث والانتشاء، رمالها الذهبية تكتب إلياذتها الخالدة وأهازيج

العشق فيها ترددها النسوة منذ القديم، صحراء حزوة تفتح ذراعيها لكل الباحثين عن المتعة والاختلاف ضمن فعاليات المهرجان الدولي للخيام بحزوة في دورته الخامسة والعشرين.
مهرجان تواصلت فعالياته لأربعة أيام واحتفل بالخيام وقدمت للجمهور الخصوصيات الثقافية في الموسيقى والمأكل والملبس لجهة حزوة، فكانت المدينة فضاء مفتوحا لللقاءات الفنية والتجارب الإبداعية، لقاءات جمّلتها الصحراء بحبيبات رملها وشمسها التي تتوسط السماء منذ الصباح فتشع ويصبح اللون الذهبي مغريا كما الموسيقى.

المرأة البدوية شامخة كما الصحراء:
حزوة الحدودية فتحت أبوابها لأربعة أيام للباحثين عن المتعة، أربعة أيام من اللقاءات الفنية مع كل الفنون الصحراوية والأهازيج التي تميز سكان البادية عن سكان المدينة تجمّلت المدينة في حملة «زين بلادك» وأصبحت ألوانها مثيرة وحكاياتها مبهرة.

النسوة كنّ سيدات الحفل و»المحفل» و»المرحول»، منذ اللقاء الأول مع المدينة تستقبلك النسوة بالزغاريد و بألوانهن الزاهية التي تشدّ الناظر فالألوان التي تلبسها النسوة ليست من فراغ بل هي تعبيرة ابستيمولوجية عن جمال البدوية ورغبتها في شدّ أنظار الآخر فللّون بريقه وللّون تأثيره على عقل الإنسان.

فالألوان هنا جميلة، ألوان للانشراح للجمال للحياة كلّ الألوان الزاهية تجدها في لباس النساء وهنّ يرتدين أجمل ما عندهنّ ويضعن زينتهنّ الكاملة فيكنّ كما البدر وسط النجوم تماما كما يقول الشاعر « أروع مثال عطيتي، كيما البدر في ليلة ظلام ضويتي».

ألوان الفرح تصبغ لباس النسوة في حزوة، ألوان البهجة تنتشر في كلّ مكان، جميعهنّ يضعن «الظفاير» إمّا على الرأس أو الكتفين و»الظفاير» مجموعة من خيوط الصوف الملونة تضعها العروس والشابات للدلالة على انهنّ لا زلن ينبضن بالحب.

من مميزات اللباس المحلي أيضا «الملحفة» خاصة البيضاء اللون التي تلبسها العروس او امّ العريس وهي من مميزات الجهة في اللباس وتختلف عن «الملحفة الكحلة» التي تلبسها النساء في مناطق جنوبية أخرى.

الخيام المنصوبة فضاء لاكتشاف عادات وتقاليد الجهة، الخيام أصبحت فضاء ليتعرف الزائر على الموروث الشعبي لحزوة واكتشاف لباسها وألوانها المبهرة التي انتشرت في كل الخيام تقريبا، في حزوة والجنوب عموما هناك ميزة خاصة عند الفتيات وهي «النخ» أي الرقص و»النخ» في الجنوب في المحفل تحديدا يختلف عن الرقص في بقية مناطق الجمهورية لانّه هنا يقوم اساسا على الشعر فالفتيات غير المتزوجات يجلسن على الركبتين ويقدمن رؤوسهن إلى الأمام ويتركن شعورهنّ منسابة ويحركن الرأس على إيقاع «الرادسي» وتكون حركات الرأس في شكل الرقم «8» وفي تقاليدهن قديما كان «النخ» وسيلة الفتاة لتجلب الرجل إليها فالشبان يكونون جالسين غير بعيد عن الفتيات اللواتي يرقصن ومن تعجبه فتاة يرمي إليها بمنديله أو يضع العطر فوق رأسها كتعبير عن اختياره لها خطيبة له، ولازالت النسوة هنا تحافظن على عادة «النخ» التي تميزهنّ عن غيرهنّ.

الزقايري: رقصة الحرب والهوية
الموسيقى ممتعة، موسيقى تدفع السامع إلى الرقص دون تفكير فلغة الجسد اصدق اللغات وتتفاعل مع الموسيقى دون حاجة إلى ترجمة وهنا ارتبط الرقص عادة بالمحفل، ذلك الفضاء الذي يجمع المقبلين على الزواج والعائلة ليتسامروا وينتشوا بلحظات من السعادة، الرقصة التي يقدمونها خاصة بأهل الجنوب رقصة تكاد تندثر هي جزء من التراث اللامادي للجهة وتعبيرة عنهم وعن انتمائهم للصحراء، رقصة «الزقايري» التقليدية تقدّم طيلة أيام المهرجان لتعريف زوار الجهة بالتراث الذي تحفظه أقدام الراقصين وحركاتهم.

هم خمسة راقصين يؤدون رقصة بشكل منتظم إذ ترفع الأرجل إلى الأمام مع الجلوس بين والحين والأخر بما بتناسب مع آلة الزّكرة ثمّ ترفع الأرجل إلى الأمام مع الارتكاز على رجل واحدة وهزّ الأكتاف وعادة ما يرقصون في شكل دائري وكلما ضاقت الدائرة زاد التفاعل مع الموسيقى.

وجاء في تعريف رقصة الزقايري أ نّها رقصة يقوم بها الرجال مستعملين بنادق تقليدية مرفوقة بنغمات الزرنة والبندير وهي رقصة عربية في رموزها ومعانيها وأهميتها تكمن في التفاهم والتكامل بين أعضاء الفرقة في محاولة أطلاق طلقة البارود بصفة متناسقة في مرة واحدة. الزقايري مشتقة من الكلمة الفرنسية Guerrier والتي معناها المقاوم و تدل على المقاومة الشعبية إبان الاستعمار.

فالزقايري تسمى رقصة الحرب والفرح يرقصها الرجال بعد انتصارهم في المعارك وفي البداية كانت تعبيرة تلقائية عن النصر لتصبح فيما بعد رقصة شعبية مشتركة بين تونس والجزائر.

لراقصي الزقايري لباس خاص بهم ويتمثل في سروال أسود مطرز بالأبيض وقميص أبيض وعمامة بيضاء وحذاء أبيض حتى تتحقق وحدة الشكل كما تحقّقت وحدة الرقص.

الزقايري رقصة للتعبير عن الهوية وتمسك اهل الجنوب بتراثهم المادي واللامادي تعبيرة فنية عن الانتماء وما رقصة ذالك الطفل الذي لم يتجاوز الرابعة وحده وسط الجماهير الا عنوان على أن الرقصة هويتهم .

المحفل سرّ وسحر الجنوب
تغيّر الطقس، هاهي الشمس تميل الى الغروب تختبئ خلف الرمال تودّع الحضور ليستقبل شقيقها القمر، مع غروب الشمس يتغيّر الطقس يصبح اكثر برودة، وحدها النار سند أبناء الصحراء وقت البرد، الخيام المنصوبة للمعرض تصبح فضاء للجلوس، نار قوية تشتعل عملا بالعادات في إشعال السامور للسهرة، من يقول الجنوب والصحراء حتما يقول المحفل تلك «اللمة» الجماعية التي تميز سكان البادية، هو اجتماع للسمر للموسيقى للتبارز بين الشعراء وللغزل بالصحراء ونسائها.

الخيام ترحب بجمهور مهرجان الخيام، مراوحة بين الموسيقى الشعبية و الالات الوترية لصناعة فرجة مختلفة ومتجدّدة، الشعراء الذين يؤثثون المحفل كل منهم لبس لباسه التقليدي الخاص به، هم يتبارون لاجل تقديم اجمل الاشعار ، الطبل يكون سيد الموسيقى وبطل السهرة، مع ايقاعاته القوية ينطلق المحفل، الذي يقام في الجنوب في مناسبات الاعراس وعادة ما يأخذ شكلا دائريا.

المحفل في مهرجان الخيام اثثه ثلة من امهر شعراء الجنوب وأصوات من اجمل فناني الصحراء، الشاعر الشعبي جمال بن عيسى يقول اجود الكلمات، يتغنى بصحرائه التي يرى في امتدادها امتداد لعطف محبوبته الاولى امّه فيقول:

«يا سمح الخواطر دونك دون، ظام الفلب لين دمه تقاطر ، دونك بحر ودونك موج عالي ودونك بر مليان شجر جراله كي داروله فناطر، صحراء خالية وشوقي كبر، يحن يجي وردي العاطر»، فهنا الشاعر يتحدث عن شوقه الذي فطر قلبه واصفا المعيقات التي تمنعه من اللقاء بحبيبته.

في المحفل يحلو الشعر، ترقص الكلمات وتتسابق الإيقاعات البدوية التي تعبر عن الشوق حينا «هز الشوق ثنايا الخاطر» و البهجة أحيانا أخرى فموسيقاهم تعبيرة عن خوالج النفس ومكامنها.

في سهرة المحفل تتماهى الإيقاعات مع الرقصات، سهرة عادة مؤكدة في الصحراء لها ناموسها وقوانينها، ومن يقول الصحراء حتما يستحضر الشاعر الشعبي المميز البشير عبد العظيم الذي أبدع في إلقاء كلماته الرنانة والصارخة بالحب والحرية في لقائه مع الجمهور، للصحراء أنينها، أنين يعكسه الصوت الصحراوي الرقيق منير اللطيفي الذي كلما غنّى يصمت الجميع وينصتون لذلك الصوت الرقيق والموجع.

ويؤدى المحفل عادة في احتفالات الزواج بشكل دائري يتجمع فيه مختلف أفراد المجتمع من نساء ورجال وفتيات وأطفال. حيث تجلس الفتيات الرقصات للنخ داخل الدائرة في شكل هلال ويقابلهن الرجال الذين يؤدون رقصة الزقايري ويحيط بهم النساء في الجهة الخلفية للفتيات ليأتي على جانبيهم الأطفال ثم الرجال لتكتمل الدائرة بسادة الجماعة.

في المحفل تختلف الإيقاعات، يتماهى الكلام البدوي مع موسيقى القيثارة والكلافيي وتلتحم الصور الشعرية الغزلية مع إيقاعات الطبل الصاخبة، في المحفل تتماهى مشاعر الحب لتلتحم مع حبيبات رمل الصحراء في ليلة مقمرة زادت المحفل سحرا.

الصحراء تجمعهم وتمتعهم
ساحة المهرجان تغري بالزيارة، المنظر من علوّ ممتع فامامك ايها الزائر الصحراء ممتدة تكشف القليل من اسرارها، في اليوم الاول جادت الصحراء بحكاياتها وحديثها في ملحمة مسرحية موسيقية قدمت قصص بني غريب.

وهاهو حديث الصحراء لا ينضب ورمالها تأبى السكوت لتجمع حولها محبيها وممارسي فنونها الشعبية في تونس خاصة مدن الجنوب وليبيا والجزائر ليقدموا للجمهور الذي اقبل بأعداد غفيرة القليل من الموسيقى التراثية وعادات أهل الصحراء وان اختلفت جنسياتهم.

الصحراء موطن للحب، هي فرصة للتأمل في سحر الخلق وبهاء الخالق، متعة ذاتية ونشوة يشعر بها الصوفيون الذين يجوبون الصحراء بحثا عن الحقيقة، لتكون اولى اللقاء مع الموسيقى الصوفية لقاء مع فرقة حضرة نفطة حيث تدق البنادر وتضرب بقوة لتحدث موسيقى قوية معها اعلام خضراء ترفع والبخور يفوح شذاه في كامل الساحة نشوة تحاكي انتشاء الصوفيين وهم يهيمون في صحرائهم.

من نفطة الى دوز والموسيقى الشعبية للجهة مع فرقة النجوم الخمس والميزة هنا هي رقصات الفرسان المبهرة، رقصة يكون فيها سيد المكان يشاكس الموسيقى ويغالبها وهو يرقص شامخا شموخ فارسه الذي يمتطيه وصوت شاعر معتز بانتمائه للصحراء يرفع صوت الشعر فيه ويقول:
غير افزعي وتعلّي
نحبّوك من فوق السحاب تطلي
حني ناس فوق الامجاد تربّعنا
حني اولاد الوطن...ربح الوطن

تتواصل احتفالات ابناء الصحراء بمهرجانهم وتتواصل العروض الفرجوية التي يقدمها ابناء الجنوب وللجمهور قدم الفريق الوطني لرياضة «المقعاف» عرضا فرجويا ممتعا جمع الرياضة بالفنون وهي لعبة شعبية اساسها العصي المعقوفة وكرة من الصوف والخيوط يجري وراءها مجموعة من اللاعبين باللباس التقليدي الصحراوي عرض يقدم المتعة والرغبة في اكتشاف الالعاب الشعبية للصحراويين.

من صحراء تونس الى صحراء الجزائر، فرسان يتقدمون الموكب، الراية الجزائرية ترفرف وموسيقاهم الشعبية تصدح في المكان تصاحبها رقصاتهم التقليدية مع جمعية احباء التراث الشعبي «بير العاتر» الجزائر، يقدمون لوحات من رقصاتهم التقليدية، يلبسون الالوان التقليدية التي تميز منطقتهم، الاحصنة تتراقص مع الموسيقى وتصنع الفرجة في ساحة ممتدة تبعث في نفس الزائر حبّ اكتشاف ماتخفيه الكثبان خلفها.

احتفت حزوة بضيوفها، نصبت لهم الخيام في الصحراء عرفتهم على «خبز الملة» و «المرحول» و»الزقايري» امتعت الباحثين عن الهدوء والسلام، واذهلت محبي الاكتشاف والحالمين، فهنا النخيل شاهد على الحياة ورمال الصحراء تشهد دوما أن في هذه المدينة –القرية كلّ الحياة.

المشاركة في هذا المقال