Print this page

قراءة في كتاب «على أمثالها تقع» لمحمد المهدي الدالي: من التاريخيّ إلى الإنشائيّ

بقلم: اليامنة عكرمي
«على أمثالها تقع» كتاب جديد ينضاف إلى المكتبة العربيّة وهو للأستاذ والمؤرّخ محمّد المهدي الدالي ؛ مؤلّف هو الرابع

من نوعه يشمل تسع عشرة أقصوصة مختلفة الطول جلّها تحمل أسماء لطيور ، جمع بين القصّة القصيرة والأقصوصة في إثنتين وأربعين صفحة والمائة من الحجم المتوسّط . مولود جديد يجمع بين الأسطورة والتّأريخ والتّوثيق صدّرها صاحبها بسطرين شعريّين هما مقتطف للمغنيّة اللّبنانيّة فيروز وأرفقه برسم يدويّ لصورتها لعلّ ذلك عن قصد. و محتواه :
يا طير يا طاير على أطراف الدني

لو فيك تحكي للحبايب شوبني
من هنا نلاحظ إحتفال الكاتب باللهجة العامّية ربّما هي محاولة منه لتقريب لغة الكتابة من لغة الكلام اليوميّ ورغم أنّ اللهجة لبنانية الأصل فهو هنا يكتب عن واقع تونسيّ و لا يرفض الإحتكاك بالآخر والإطلاع على إنتاجه وهنا نجد إحتفالا واضحا باللّغة بما هي إنفتاح نحو ميتافيزيقا الشّخصيّة التي لا تنفصل عن اللغة.
وما يمكن أن نقوله ضمنيّا أن طبيعة شخوص هذه المجموعة مماثلة لأشخاص واقعييّن اِنطلاقا من الطبيعة القاسية اِبتداء من المحيط الأسريّ للشّخوص إلى المحيط الخارجيّ المجتمعيّ.

وحين نقرأ هذا العمل القصصيّ للكاتب /المؤرّخ محمّد المهدي الدّالي نلاحظ أنّه جملة قصص تتيه وتتوغّل في الذّاكرة بدءا من المحيط الضيّق وصولا إلى المحيط الأرحب وهو العالم وما يجري فيه من أحداث أشارت إليها بعض القصص مثل فترة الإستقلال وما بعده وهي إلى ذلك قصص تشحن الذاكرة . وقد أراد القاصّ توظيف المثل الشعبيّ والإحتفاء بالعادات والتّقاليد إذ يُعرف عن العرب أنّهم من أكثر الشّعوب إستخداما للأمثال الشعبيّة وقد مثّلت هذه الأمثال علامة فارقة في أعمال المهدي الدّالي ونحن نعلم أنّها تنتقل وتتوارث من الأجداد إلى الآباء ثم الأحفاد لتكون حلقة من السّند تتعاقب عبر الأجيال يكون الهدف منها تعريف الأجيال الجديدة على ما عاشه وشهده السّلف خوفا من أن تمحى من الذّاكرة ؛ هو بحث في الذات وفي الوعي الجمعيّ وكلّ ذلك عبر تذكّر فيه حسرة وألم.... وشخصيّات هذه القصص جلّها من الطبقة الفقيرة ( بائع شرطي ربّة بيت.... ) ونلحظ في هذه المجموعة إنتصارا واضحا وإهتماما بالفئات الضّعيفة الهشّة نفسانيّا واِجتماعيّا .

بحث جليّ عن معاني جديدة هدفها تطوير الحالة بضرب من الموضوعيّة للواقع العربيّ المتردّي دون الوقوع في رثاء مرير وانّما ديدن الكاتب تذكير دائم بأنّ الوطن لا يكون إلاّ بأهله ويندثر باِندثارهم وهو ما يولّد السّؤال الصّعب : هل حقّق العرب ذواتهم؟
تتّضح هذه الرّؤية جليّة إذا عدنا إلى العنوان» على أمثالها تقع» باِعتباره عتبة النّص الأولى ؛ فقد ورد العنوان جملة إسمية تقريريّة المبتدأ فيها محذوف تقديره الطيور ، فعلها مؤخّر وفاعلها مستتر والأصل أن نقول «تقع على أمثالها» . والمعلوم أنّ العنوان يرغّب القارئ في امتطاء النّص إذ نعلم اليوم أنّ قرّاء العناوين أكثر من قرّاء المتون فقد ورد العنوان قابلا لقراءة تأويليّة كشفت عن مرجعيّة ثقافيّة مقصديّة و حمولات معرفيّة وأدبيّة فنيّة أحسن من خلالها الكاتب إيصال رسالته.

والعنوان بهده الصّورة نتيجة لرؤية تبدو كأنّها مطلقة ولا تراجع فيها: «على أشكالها تقع» والملاحظ أنّ الكاتب اِرتاى أن يكون العنوان لمجموعة الأقاصيص لا لأقصوصة واحدة ورغم ذلك فإنّه أشار بلطف خفي إلى بعض الأقاصيص التي تلتحم بالعنوان وتحيل إليه .
كما نلاحظ إحتفاء المبدع بالعبارة /الحرف التي جاءت مهذّبة قصيرة هادئة سلسة حينا شديدة أحيانا أخرى راجّة للمألوف والسّائد .

والكاتب في كلّ ذلك لا يرعوي عن الإعتراف بأنّه في العصر وإليه وفيه فلا يخرج عنه وهو مع ذلك يحافظ محافظة شديدة على ما أسماه الإنسان الدّفين فينا ، السّاكن في تاريخنا ؛ ذلك الفرد المستقلّ الذي يأبى أن ينقاد دون المسك بحريّته والمحافظة على كرامته وإن تعنّت المتعنّتون .
ولعلّ أروع مقاطع المجموعة هي التي وردت تلميحا تأخذ من الطّيور مطيّة لتأدية معنى هو بعينه؛ (الأقصوصة الأولى تعالج قضيّة مخصوصة هي حكم القويّ على الضّعيف وتحتلّ الصّفحات من 11 الى 17.) والأقصوصة الثانية ( ص 18) والتي تعالج مسألة الصّراع من أجل الوصول إلى سدّة الحكم . كما وردت الأقصوصة المعنونة ب «حاج قاسم» (ص 27 ) معبّرة عن المعنى المزيّف لمفهوم الصداقة ؛ حتّى يحقّ للقارئ أن يردّد في هذا العصر مع الكاتب دون أن يتحسّس مرارة الواقع.

ونصل مع الكاتب إلى رؤيته العميقة حيث نجح في باكورة أعماله بنصوص جديدة حبّذ أن يكون منطلقها صياغة عالم لغويّ مستحدث جاء معينه الأساسيّ قائما على البحث عن لغة تعبر العصر وتخترقه ومن ثمّة تسربلت هذه النّصوص بعالم أسطوريّ تاريخيّ وثائقيّ فتعدّدت الرّؤى والتأويلات وتنوّعت وهي في كلّ ذلك تستجيب إلى أفق اِنتظار لقارئ نهم يعلم أنّه يعيش عصرا يصعب أن تستوعبه لغة مهترئة لم يتكّيف هواؤها منذ أحقاب . لذا دفع الكاتب باللّغة في أتون التّجدد من ناحية والتّجذّر من ناحية أخرى حتى أنّه يعمد في أحيان كثيرة إلى العاميّة حتى تكون أقرب إلى اليوميّ والمعيش.

وقد اِحتفل الكاتب بالمكان أيّما اِحتفال إذ اِرتأى أن يكون مسرح أحداث القصّة البلاد التونسيّة وبعض مناطق منها : ( قفصة الشماليّة ، الجنوب الغربي التونسيّ ( ص 48 و 68)، قفصة الشّمالية ، قفصة ،القطار، نفطة ، دقاش.( ص 39) وادي بياش ،قفصة قصر( ص 30 ) ، شمال شرقي قفصة بالحنوب الغربي التونسيّ ( ص57 ) واحة سيدي منصور( ص 110) والأمكنة كثيرة في القصّة ، وقد وردت مقصودة من قبل الكاتب وليست اِعتباطيّة أو خياليّة وإنّما موثّقة وحقيقيّة تكشف عن دراية جغرافيّة محكمة بالبلاد التونسيّة. وهنا يستوقفنا « وادي بّياش» بقفصة والذي كان مسرحا لحادثة حرق الكاتب محمّد المهدي الدّالي لكتبه ؛ المهدي الدّالي الذي لقب ب « طائر الفينيق الأسطوريّ» الذي باقترافه هاته «الجريمة» حلّق بنا في

فضاء أرحب هو إطلاق العنان للحياة والجمال ونفي كلّ القيود والعراقيل والتّحليق في فضاء أرحب ومكان حميميّ في وجداننا ليكون متّسعا للحلم و العطاء . فقد كان للمكان عمق دلالة اذ يعتبر «وادي بيّاش» مدخلا للمدينة وبداية الإنطلاق ومفترق الطرق تحت الجسر الفاصل بين قفصة والقصر وكانت هده الواقعة الفريدة من نوعها في تونس تعكس أزمة المثقّف و أزمة الكتاب .

و تتظافر مع ذلك كلّه الأحداث التاريخيّة حتّى تنتج أثرا توثيقيّا أو قل ترجمة لواقع البلاد التونسيّة في فترة السّبعينيّات من القرن المنصرم :» يقول في هذا الصّدد «جماعة الديوان السّياسيّ الذين أصبحوا يعرفون أنفسهم بالحزب الإشتراكيّ الدستوريّ منذ مؤتمر بنزرت عام 1964 « ويقول في موضع آخر «إقامة جسر إثر أحداث 12 ديسمبر 1973 «( ص 30) أو «القبض على جماعة ديسمبر 1962 « (ص41).

ولم يكن توظيف الطّيور في هذه القصّة مجانيّا أو بالصّدفة بل كان مقصديّا ؛ فقد كشف لنا الكاتب عن معرفة و دراية بأنواع الطّيور . نأخذ مثال على ذلك يقول : « وببغّاء المكان لمن لا يعرفه هو طائر يتواجد في المناطق الإستوائيّة في الأمريكيّتين ويتميّز بصغر حجمه وبألوانه» (ص ص 93 و 94). أو يقول في موضع آخر متحدّثا عن طائر البرقوق :» طائر البرقوق هو أجمل ما تعرف من الطّيور والبرقوق هو الثّمرة التي تعرف باسم العويْنة ومنها اُشتقت تسمية البرقوق بالجنوب الشرقيّ الآسيوىّ كناية عن زخّات المطر المتهاطلة بمنطقة المناخ الموسميّ» (ص 98). يضيف بالقول في الأقصوصة رقم 14 متحدّثا عن طائر الحبارة: «طائر بحجم الدّحاجة تواجد منذ دهور ببلادنا تونس من منطقة السّباسب (قفصة ، سيدي بوزيد، القصرين) إلى أقصى الجنوب لكن تحت وطأة الصّيد العشوائيّ» ‹ص 107). كلّ هذه التّعريفات لا تصدر إلاّ من كاتب عليم مقتدر على دراية واسعة وليس بغريب عن الأستاذ محمّد المهدي الدّالي هذه النّزعة التّوثيقيّة حين نعلم أنّه أستاذ التّاريخ والجغرافيا والذي تتلمذت على يديه العديد من الأجيال منهم كاتبة هذه الأسط ؛ فهو عليم بشوارد المكان والزّمان.

متضلّع مقتحم لأسرار المعلومة ومعلوم أنّ للطيور جزء من ثقافة الإنسان أي السّلوك الإجتماعيّ فقد ظهرت الطّيور في الأساطير والديانات والعديد من الثّقافات منذ الحضارة السومريّة وأثبتت مختلف البحوث والدّراسات مدى أهميّة الطيور باِعتبارها تمسّ جميع جوانب الحياة حتّى أنّها ذكرت في القرآن في عديد السور . كما اِتخذ منها الأدباء مناجاة لبثّ ما يشعرون به من أحاسيس حرّكت وجدانهم وأثارت مكامن الشّجن في قلوبهم في مختلف الخطابات الأدبيّة وقد تاتي صورة الطير صورة رسول يحمله الكاتب رسالته ومن هنا نقر بالصورة الرّمزية للطّيور.

إجمالا يمكن القول أنّ العمل الذي نحن بصدده «على أمثالها تقع» جاء إحتفاء بواقع محليّ نفخ فيه صاحبه من روحه بأسلوب تحليليّ وصفيّ توثيقيّ حجاجيّ سوريالي أحيانا سيرذاتي أحيانا أخرى؛عمل ينمّ عن إلمام صاحبه ودرايته وسعة معرفته ، اِرتأى فيه كاتبه أن يترك في طيّاته أثرا وذلك بتصويره لأحداث محايثة له فهو كاتب عصره وزمانه ممّا جعل عمله يتّصف بالدّقة والشّمول ، عمل تأريخيّ لأحداث عاصرها المهدي الدالي ونقلها إلينا بكلّ أمانة وموضوعيّة فهو شاهد على عصره إتّخذ من الطيور مطيّة لتبليغ رسالة بعينها ؛ فهو الرّاوي العليم يحملنا بقلمه نحو نشدان واقع جديد، فالكاتب الصّادق والموهوب هو من يهرب بالكتابة كل بقناعاته وأسلوبه في التنكّر والتخفّي لتأخذ الكتابة بذلك منعرجا جديدا بعيدا عن

الإستسهال والثّرثرة الفارغة لتكون الكتابة الإبداعيّة بذلك خلاصة تجارب حياتيّة ومخزون من القراءة تلهم الكاتب في معالجة قضايا حياتيّة تمسّه وهو ما نجد له صدى في الأثر الذي نحن بصدده إذ أعرب محمّد المهدي الدالي عن نزوعه إلى التّجديد بالإستناد إلى أرضيّة معرفيّة متينة وخيال خصب في الكتابة وموهبة جسورة ربما سنعانق بها شيئا ممّا أخذته إكراهات اليومي المملّ يبقى التّساؤل عن مدى أفق القراءة والتّعويل عن الذّائقة المتلقيّة.

المشاركة في هذا المقال