Print this page

عرض شقائق النعمان لثريا البوغانمي ضمن أيام قرطاج الكوريغرافية: من رائحة الموت وألـم الغياب تزهر الأجساد المنسية

يزهرن كما شقائق النّعمان من قسوة الصخور وشحّ الطبيعة يينعن وتزهر افكارهنّ وتكتب اجسادهنّ قصص نساء يعبرن عنهنّ بأجسادهنّ

ويكتبن قصص الغياب والوجيعة بالرقص فتلك اللغة البهية المقدسة تكون صوت المرأة ووجيعتها وهاجسها في الحياة وباجسادهنّ كتبت الراقصات قصص الغياب والارض والمرأة والوطن في شقائق النعمان.
هو عرض احتضنته قاعة الريو ضمن فعاليات مهرجان ايام قرطاج الكوريغرافية من اخراج ثريا البوغانمي وسينوغرافيا صبري العتروس وتوظيب الانارة لمجدي رضواني وموسيقى لهيفاء بوزياني واداء رحمة الفالح وامال العويني وخلود بديدة وثريا البوغانمي وادارة فنية لريان القيرواني، شقائق النعمان عرض يكتب طريقا يحمل بين طياته المفارقة العجيبة هو طريق الموت و هو أيضا طريق الحياة و بينهما يتحدد القدر بين ثنايا الغبار.

غياب الآخر.. تحوّله المرأة الى ابداع
موسيقى هادئة، اطارات لصور فارغة تزين كامل الفضاء، الاطارات الفارغة كأنها دليل على فقدان اصحابها وغيابهم، تتوسطهم صورة لرجل بالزي العسكري، ضوء احمر فاقع يكون نقطة انطلاق العرض الكوريغرافي، حُمرة الضوء مع تقطّعات الموسيقى والإطارات الفارغة تحمل المتفرج الى عوالم الغياب ووجيعة الفقدان.
الرجل هو الحاضر الغائب، يحضر بصوره ويغيب جسده عن الركح فهنّ يستحضرنه من خلال الموسيقى والصور وكاننا امام صرخة قلب تقول « الى اولئك الذين يسمعونني اقول لا تيأسوا، الكراهية ستزول والطغاة سيموتون والقوة التي سلبوها ستعود الى الناس، ايها الجنود لا تمنحوا انفسكم الى الوحوش اولئك الذين يحتقرونكم ويستغلونكم وقودا للحرب» هذا النداء

الذي يرسله القلب الى الجنود هو بداية العرض الذي يستحضر الاخر، يستحضر الجنود وكل الذين قتلوا غدرا او غرقا او قتلتهم قسوة الرصاص ووجيعة اليومي فباجسادهنّ تستحضر الراقصات الاخر الغائب عنهنّ والحاضر فيهنّ وعملية الاستحضار تكون من خلال لغة الجسد الصامتة الصارخة في الوقت ذاته.

حركات متسارعة وإيقاعات الجسد تتزايد تدريجيا، رائحة الموت تنتشر في المكان، رائحة نستشعرها عبر حركات الجسد وتهدجات الصوت كأننا بالمتفرج امام وقع مصيبة ما، الضوء يزداد حدّة وأهزوجة كافية تصدح في المكان يرافقها صوت العود، يبدو ان الاغنية رثائية تستحضر صفات الحبيب الغائب وتتغزّل بمواصفاته، الاهزوجة الكافية يرافقها حركات تشبه اللطم وهنا يستحضر الجسد لحظة وصول خبر استشهاد الجندي او موت الرجل السند لتكون وجيعة الفقد لوحة فنية تصنعها المرأة المكلومة وتبدع في تفاصيلها كذلك تفعل الراقصات على الركح واللواتي حوّلن ردّات الفعل التلقائية الى عمل فني مميز اتقنّ تفاصيله حركات مضطربة ووجيعة الروح تنقل على الاجساد وكأننا بالمتفرج يستمع الى امال المثلوثي تغني «قداش من ريشة طارت، قداش من حلمة صارت ليل ،قداش قداش من مرا تضربت ،من ناس حرقت ،من فلوكة غرقت، قداش من حلم ثقيل قداش قداش من بلاد تهجرت» ،وعلى الركح نسجن من الهوامش الياذة كوريغرافية تمتع البصر.
حركاتهنّ تقول ان نحن الاحياء قاب قوسين أو أدنى من الموت المشتهى، الحياة كذبتنا الصادقة الموجعة.، ومن خلال تماهي الموسيقى والسينوغرافيا مع لغة الجسد نشاهد ان تقطع الانفاس وانخفاض دقات قلب الاخر عنوان لبداية اللعبة بداية الاانساني الذي سيحفر في المرأة وجها بائسا خائفا وسيئا للآخر وللعالم.

شقائق النعمان...تزهر وإن شحّت الحياة وقست
هنّ الجمال، هنّ قبس الحياة ونورها، هنّ الام و الاخت والزوجة والصديقة، هنّ اللواتي فقدن السند وقررن خوض غمار الحياة، الموسيقى المميزة التي ابدعت هيفاء بوزيان في صياغتها من نقاط القوة في العمل، السينوغرافيا المختلفة التي اشرف على كتابتها المبدع صبري العتروس مميزة ايضا اما الراقصات فكنّ كما شمعة ملتهبة تعاند الرياح لكي لا تنطفئ.
شقائق النعمان اسم العرض ومن مميزات هذه الزهرة البرية استمدت الراقصات الجرأة والقوّة و الصمود، على الركح يجسدن شخصيات النساء الفاقدات للسند المكلومات اللواتي انهكهنّ الفقدان و الخوف ورغمها يواصل المقاومة.

هنّ يشبهن شقائق النعمان، يسبحن للكون والريح والدمع والغيب والربيع القادم بلا اجنحة في الروح لا احد يراهنّ، عاريات فصيحات قلوبهنّ بذور سوداء، يرتدين الاحمر القاني ويقفن على ساق واحدة رفيعة في البرية، لا يينعن، وحيدات يأخذن شكل الحلم والدهشة، يحملن لون الدم مرايا للحروب وباجسادهنّ واصواتهنّ المتقطعة والحركات القوية حينا و الهادئة حينا اخر يحمل المتفرج الى عوالم الحرب وقساوتها فافكارهنّ تنشر كما الجثث المرمية التي يشعر المتفرج بوجودها من خلال صوت الرصاص وأصوات ارتطام الاجساد على الركح.

أصوات كأنها قول الشاعر العراقي كاظم خنجر «كانوا يخلطون الجثث، وعندما نخرج إلى الساحة العامة في الصباح، كنا نتيه مثل بصر ضعيف ونقارب بين الرأس وجثته، وندرك في أعماقنا أننا نمنح الرؤوس لجثث لا تعرفها. الآن يرتبون الجثث، يوحدون أزياءها، يضعون الرأس على الظهر. أما نحن فما عدنا نخرج، لأن الجثث المرتبة وصلت إلى ساحات المنازل» بؤس الكلمة ووجيعة الحرب ورائحة الموت يصل شذاها الى المتفرج من خلال صدق الراقصات في تقديم الكلمة وتحويلها الى حركة فنية ممتعة.

من القسوة يولد الامل ومن الفقدان تولد القوة، ومن العدم يصنعن انتصاراتهنّ هنّ كما شقائق النعمان في الرقة والقسوة، في اللين والصمود، حركات الجسد تنقل انفعالات النفس، الاجساد تحاكي الواقع ووجع المرأة، تحملك الى عوالم المرأة الفلاحة التي سقت الارض بعرقها الى دواخل المرأة الوهنة التي تلبس قناع القوة لتحيا، الجسد يكون لغة القلب وصوته وصوت صرخات الروح التي تعانيها المرأة في مجتمعاتنا.

رقصة الوداع كانت رقصة الجدران، يمشين على كامل الركح، يحملن ادباشهنّ ينزعن الصور المعلقة وحتى الاطر الفارغة وكان بالجدران تنزف وتتالم ايضا لرائحة الموت وصوت الضياع فالبيوت تقتل كما سكانها، وتُقْتَلُ ذاكرة الأشياء: الحجر والخشب والزجاج والحديد والاسمنت تتناثر أشلاء كالكائنات. والقطن والحرير والكتان والدفاتر والكتب تتمزق كالكلمات التي لم يتسنّ لأصحابها أن يقولوها.

كل هذه الأشياء ذاكرة الناس التي أفرغت من الأشياء، وذاكرة الأشياء التي أفرغت من الناس... تنتهي بدقيقة واحدة. إن أشياءنا تموت مثلنا، لكنها لا تدفن معنا» كما يقول محمود درويش الذي انطلق جزء من العمل من نصوصه عن الحرب.

المشهد الاخير من العمل يترك رسالة مفتوحة للامل، فاحدى الشخصيات اثناء المغادرة تترك نبتة على الركح نصفها اخضر يانع ونصفها الاخر شبه ميّت، هي رسالة مفتوحة لنا لمن يشاهد الوطن ووجيعته فان اهتتمنا بتلك النبتة عاد الامل وازهر وولد انسان جديد يؤمن بالوطن وان تناسيناها مات الامل فينا وتناثر كما دموع الثكالى.

المشاركة في هذا المقال