Print this page

مسلسل «المايسترو» يدير الرّقاب إلى عالم الإصلاحيات: نعم... يمكن للفن أن يغيّر الواقع !

في المايسترو «الفنّ ليس مجرد مرآة تعكس الواقع، إنما هو المطرقة التي تنحت الواقع»، فلم يكن هذا العمل الدرامي

إبداعا موّفقا إلى حد كبير بل كان أكبر من ذلك من كثير ! لقد كان رسالة وقضية وصرخة في وجه مجتمع مريض وقانون أعمى... لقد عزف «المايسترو» بمنتهى الروعة على وتر الفن بما هو ضرورة ومقاومة وعلاج... فأثبت أن الفن يملك فعلا سحر التأثير والقدرة على التغيير، وأنه متى دخل مكانا يبدله إلى الأفضل ولو كان الأشد ظلمة والأكبر قسوة.
بعد أن تخلفت في الموسم الفارط عن إنتاج مسلسل رمضاني، أعاد «المايسترو» إلى التلفزة التونسية جمهورها من الباب الكبير مع باقات ورود من الرضا والثناء على تقديم فسحة درامية تحترم الذائقة الجمالية وتستجيب إلى أهداف الفن السامية.

«المايسترو» دراما بعدسة الالتزام
أمام شاشة «المايسترو» كثيرا ما ارتحلت الحواس مع عوالم المسلسل واستحوذت لدى المشاهد على كل الإحساس... فإذا بالمتفرج يتوّرط في الشخصيات ويتلبس الأحداث والأبطال، فيبادلها الدمعة ويقاسمها الابتسامة، يبكي انكسارها ويحيي صمودها... فإذا بالمسلسل ينجح فنيا في استقطاب اهتمام جماهيري وحصد الإعجاب والإشادة لعوامل عديدة لعل أهمها طرافة الموضوع المطروح وحرفية الممثلات و الممثلين وجمالية صورة الكاميرا التي تم التقاطها بعدسة السينما ...

عند هذا الحد يمكن أن نرفع القبعة لمخرج المايسترو الأسعد الوسلاتي وكاتب السيناريو عماد الدين الحكيم وكامل فريق العمل لإنتاجهم مسلسلا تفخر به شاشة التلفزة الوطنية لسنوات وأجيال ونمضي. ولكن طرح «المايسترو» يأبى علينا أن نكتفي بمجرد فرجة ممتعة دون أن يربكنا ويدفعنا إلى التساؤل ويحدث زوبعة من حولنا بحجم الزلزال الذي يرّج السواكن والمسكوت عنه ويقتحم أسوار إصلاحيات قد نمر بجانبها دون أن نكترث لمن فيها وماذا يحدث بها !
في ذكاء يستحق الإشادة، نجح المايسترو في العثور على تلك التوليفة الجميلة التي ربطت بين تعرية واقع مراكز إصلاح الأطفال الجانحين في تونس من جهة والتأكيد على الحاجة إلى الموسيقى والفن كدواء وعلاج ونضال من أجل بقاء إنسانية الإنسان.

الإدماج في المجتمع ... معضلة السجون
لم يكتف مسلسل «المايسترو» بتعرية يوميات طفولة «معذّبة « في مراكز الإصلاح كثيرا ما تحكمها لغة التهديد والوعيد وتعربد فيها ضربات العصا وركلات البوليس بعيدا عن واجب الإصلاح ودور إعادة التأهيل، بل رافقت عدسة الكاميرا الأطفال الذين غادروا الإصلاحية إلى الخارج. في هذا العالم الخارجي، لم تعد الحياة كما كانت. فنظرة المجتمع لا ترحم الجانح سواء أكان مذنبا أم ضحية فتعاقبه بالنبذ القاسي والإقصاء المتجني عن مدارسها وأسرها ومواطن شغلها... لقد ظل الانشغال بمصير الأطفال الجانحين ما بعد تجربة مراكز الإصلاح همّا مؤرقا وسؤالا حارقا يلازمان فريق «المايسترو». وقد دقّ هذا العمل الدرامي ناقوس الخطر تحذيرا من مغبّة المصير المظلم والمستقبل القاتم للمغادرين لمراكز إصلاح الأطفال الجانحين و السجون عموما قصد لفت نظر السلطات لمراجعة قوانينها الصارمة في معاقبة «الجانح» حتى بعد انقضاء المدة وكذلك تحفيز المجتمع المدني من أجل لعب دوره كوسيط في إعادة إدماج هذه الفئة الهشة والأخذ بيدها لاندماجها من جديد في الحياة كأفراد أسوياء يستحقون أن يعيشوا طفولة حرة، طليقة لا سجينة بين القضبان .

«الطفل الإرهابي»... قنبلة موقوتة
كان يمكن للمخرج الأسعد الوسلاتي أن يسدل ستار نهاية المسلسل بانتهاء حفل «المايسترو» بالمسرح البلدي ليكون المشهد الأخير على إيقاع عزف النهايات السعيدة. إلا أنه راوغ التوقعات ليعود بنا من جديد إلى قلب «الإصلاحية» حيث يُقدم الطفل المتشدد دينيا على تجييش جماعته من أجل ارتكاب جريمة حرق ومحاولة قتل في حق رجل الأمن «يونس». وكأننا بالمخرج يصرّ حتى اللحظات الأخيرة من عمر المسلسل على تنبيه الكلّ إلى خطر وجود طفل خطير في صفوف الأطفال الجانحين مما قد يحوّلهم إلى مشاريع إرهابيين وقد تسللت إلى مخادعهم قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أية لحظة لتلتهم الأخضر واليابس.
لقد انتهت حلقات المايسترو لكن صخب الأسئلة الموجعة لم ينته وتفاصيل يوميات أطفال الإصلاحيات لن ينسى... بل ستبقى كل هذه الشهادات الحية المتأرجحة بين الواقع والدراما دليل إدانة للسلطات والمسؤولين والمجتمع عموما لإيصال الأطفال الأبرياء إلى مرتبة الجناة أولا ثم فشلهم في إصلاح وتأهيل الجانحين للحد من نسبة العود ثانيا .
لقد عزف «المايسترو» على وتر الفن بدراما قادرة على أن تكون قدوة التغيير وتحدث النقلة النوعية فنيا واجتماعيا وإنسانيا... والأكيد أن موسيقاه لن تخفت في القلوب ولحنه لن يصمت في الذاكرة.

رياض الفهري... المايسترو الحقيقي
في عام 1993 دخل الموسيقي رياض الفهري مراكز الإصلاح والتأهيل ليجوب فروعها من شمال تونس إلى جنوبها على امتداد 6 سنوات قضاها مرتحلا بين الإصلاحيات في تونس زاده موسيقى وألحان وجمال ... ويوم 12 ديسمبر1993 في دار الثقافة ابن رشيق تحت إدارة المسرحي حمادي المزي ، قدم رياض الفهري عرضا فنيا ضخما بمشاركة أطفال الإصلاحيات أفضى إلى فوز تونس بالجائزة العالمية لحقوق الطفل. ولئن كانت هذه التجربة منطلقا لكتابة حلقات «المايسترو» فلا شك أن هذا المسلسل أعاد الاعتبار إلى رجل موسيقى عزف على نوتات متفردة أنشودة حياة على لسان طفولة تنتظر الإفراج عنها من الإصلاحيات.

المشاركة في هذا المقال