Print this page

العرض الأول لـ«عسكر الليل»: الرّكح فضاء لاسترجاع الماضي

الحلفاوين وباب سويقة والمدينة العتيقة بكل رموزها وأزقتها، قوس كبير يؤكد ان الاحداث تدور في المدينة العتيقة.

قبة سيدي البشير من هناك، «كبانية البراشن» حيث اجتمع أمهر الشعراء والصحافيون والنقاد، حانوت السّهارة الذي يجمع عشاق «الحسوس» يتحادثون عن تونس عن الموسيقى هم يرابضون ليليا ليجتمعوا ويستمتعوا بأجمل الاغاني، الركح اصبح بطحاء باب سويقة في العشرينات حيث يجتمع محبو المغنى، تفاصيل صغيرة بعثت في الركح الحياة وأعادت المتفرج الى فترة العشرينات والثلاثينات.

الديكور يحيل الى تلك الفترة، الكراسي وحانــــــوت السهارة واجتماع علي الدوعاجي فتحــــي المسلماني ومصطفى خريـــــف رضــــوان عويساوي و«البب» توفيـق البحري و عبد العزيز العروي خالد هويسة وجمال الدين بوسنية ومحمود بورقيبة وعبد الرزاق كرباكة والهادي العبيدي وغيرهم ممن كانوا شهودا وحراس امناء على الاغنية التونسية، يكتبــــون النصوص ويحضرون الامسيات ويدافعون عن الفن والفنانين في الجرائد وفي كتاباتهم فكانوا عسكر الليل بامتياز.

ممثلون مهرة يتقدمهم القوّال الذي يمثل الحاضر حينا ويتحدث بضمير الماضي وقتها يكون الجميع في وضعية pause plastique واحيانا يكون جزءا من الحكاية ويتحلى بصفة الحكواتي شريكهم في الفعل والرواية، جميع التفاصيل حملت المتفرج الى زمن كانت فيه الاغنية تتطلب الكثير من الجهد والعمل قبل تقديمها، عصر تحدت فيه المرأة النواميس لتبدع وتقدم امتع الاغنيات والعروض المسرحية، بالموسيقى أيضا يسلط الضوء على الصراعات والحروب التي عاشتها تونس في تلك الفترة مع كم من المعلومات التاريخية عن المدينة بازقتّها وأبوابها فالفن نافذة للتاريخ وللحياة.

هنّ الذاكرة...هنّ الفن هنّ نساء تونس
هنّ الفن، هنّ رمز من رموز هذا الوطن، هنّ تونسيات عشن فترات الحروب وكانت اصواتهنّ مطيتهنّ ليبدعن ليغنين ،ليقلن ان المرأة التونسية حرّة وقادرة على تحدي نواميس المجتمع وعاداته منذ الازل، بالمغنى يحمل كاتب النص سفيان بن فرحات جمهوره الى فترة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي ليتذوقوا حلاوة الموسيقى ويسحروا بجمالية الصالونات الادبية والحركة الموسيقية النسوية التي كانت انذاك، حركة ميزتها تونسيات عشقن المغنى واخترنه طريقا.
الى الذاكرة الموسيقية النسوية دخل سفيان فرحات بقلمه الممتع، نبش فيها وقدم نص مسرحية غنائية تسلط الضوء على تلك الفترة وتعيد احياء اسماء تونسيات مبدعات، وعلى الركح عايش جمهور مسرح الجهات فترة العشرينات والثلاثينات، ب، «الفوندو» و «الفيانة» واجواء المدينة العتيقة فكان العمل ملحمة تاريخية تحاكي تلك الفترة وملحمة فنية قدمها ثلة من امهر الفنانين والفنانات.

ملحمة موسيقية ومسرحية نبشت في الذاكرة التونسية لتعيد الضوء الى جو الكافيشانطا و «اللمات الثقافية» ومع صوت الشيخ العفريت الممتع ينطلق العرض لتتواصل الجولة الموسيقية مع حبيبة مسيكة التي جســدت شخصيتها سماح الاندلسي، وحركاتهـــــا الرشيقة على الركح لتحدث «عسكر الليل» عن بداياتها وولادتها باسم مارغريت مسيكـــة عام 1903 وعشقها للغناء الذي تعلمته من خالتها على يدي الموسيقيين عاشر مزارحي وخميس ترنان، حبيبة «اللهلوبة» التي كانت نجمة العشرينات صاحبة روائع «على باب دارك» و «طلعت محلا نورها» و «زوزروني كل سنة مرة» و»الربيع منور» غنّت وامتعت التونسيين ولازال اسمها عنوانا للهوية الموسيقية التونسية.

من رقة الحبيبـــة مسيكة الى جرأة «نانا» وقوتها تلك المرأة التي جمعت الفن والقوة شافية رشدي اول امرأة تقود السيارة بالسفساري التونسي موجهة رسالة الى المستعمر ان «المرا تونسية قادرة» وشافية رشدي هي زكية المراكشي ولدت بمدينة صفاقس في 7 نوفمبر 1910 من أب مغربي وأم ليبية ذات جذور تركية، وتوفيت في 21 جويلية 1989.، درست الموسيقى على يد الهادي الشنوفي وتعلمت التمثيل من محمد شيبوب والبشير المتهني وانتقلت الى العاصمة وسكنت في باب سويقة واقتحمت مجال الغناء واصبحت سيدته والجميع يناديها «نانا» وقد تقمصت شخصيتها الفنانة مهر همامي وغنت للجمهور «سير يا لزرق» وغنت مقدمتها الموسيقية الخاصة بها «كحلة الاهذاب».
بين رحلة فنانة وظهور اخرى يتحدث القوال عن المرأة التونسية ودورها المجتمعي والتاريخي لتحضر بعدها شخصية شافية رشدي ولعبته نورس زميط على الركح بالاحمر وتتقن رقصة الفلامنكو مؤدية «محلى ليالي اشبيلية».

وختام السهرة كان مع ابنة الدهماني صاحبة الصوت العذب فتحية خيري وتقمص الشخصية منجية يحى التي ظهرت اولا بالحرام وغنت قبل ان تغير لباسها الريفي باخر حديث وهي التي بدأت مشوارها منذ الرابعة عشرة ثم انضمت الى فرقة شباب الفن والتحقت بالرشيدية وعرفها الجمهور بزعمة يصافي الدهر.
اربعتهنّ جزء من الطابع الموسيقي لتونس، اربعتهنّ فوانيس مضيئة اعاد اليهن سفيان بن فرحات الحياة وكن على الركح غنّين ونفضن غبار النسيان عنهنّ وعن قصصهن وعن علاقتهنّ بالفن.

العرض يتطلب إعادة مراجعة
العرض الاول لعسكر الليل ممتع من حيث النص و اداء الممثلين لكنه يتطلب الكثير من المراجعة من حيث:
اللوحات الكوريغرافية التي تعتبر «نشاز» في الكثير من المشاهد اولا كما ان الحركات المستعملة «الدبكة» و «الحركات الكلاسيكية يبدو انها لا تلائم جماليا تلك الفترة دون نسيان الرقصات الشبيهة بتلك التي يؤديها الاطفال في الروضة.
الكوستيم الذي يعد جزءا اساسيا في العمل المسرحي و في العرض أيضا اللباس نشاز وجب التثبت منه تاريخيا وجماليا فلباس الراقصات مثلا لا يتلاءم مطلقا مع تلك الفترة، كذلك لباس الفنانات لا يناسب مكانتهن فنيا في فترة العشرينات ولا يناسب الزمن ايضا فهل يعقل ان تلبس حبيبة مسيكة «روبة دالاس» مثل فستان ماري انطوانات؟ وهل يعقل ان تلبس حبيبة مسيكة من قماش «الساتان» الغير موجود في تلك الفترة؟ و«الحرام الجريدي» الذي تضعه شخصية فتحية خيري على راسها؟ وهي اصيلة الدهماني؟ ، في اللباس أيضا «الزنار» بالألوان الذي لم يكن موجودا في تلك الفترة، و «الدنقري» انذاك لم يكن لباس الجميع بل كان موجها للعملة و «الزوفرة» وليس لباس الجميع، كذلك فستان او «قفطان نا نا شافية رشدي» الازرق ليس بقفطان الثلاثينات انما كان في حلّة عصرية جدية تلائم ال 2019 لا 1930 ، فهل تمّ البحث في الكوستيم جماليا وتاريخيا؟ أم وقع الاكتفاء- بجملة «لبّسها عالموضة».
الاعمال التاريخية تتطلب الكثير من البحث الميداني والكتب ولا تقتصر على الاخ «غوغل» و الاخت «ويكيبيديا» لان المعلومات الواردة فيهما تتطلب الكثير من المراجعة.

المشاركة في هذا المقال