Print this page

لأوّل مرّة «فضاء التياترو» يجمع السجينات السياسيات في السبعينات: لماذا لـم تكتب مناضلات اليسار عن تجربتهن في السجون ؟

من خلف القضبان يلوح لنا أدب السجون انتصارا على عذابات الترهيب والتعذيب وانتقاما من الإقصاء والعزل في

زنزانة مظلمة فإذا بالروايات والسير الذاتية التي كتبها سجناء الرأي تفضح سياسة قمع ظٌن أنها ستبقى مجهولة كالأسرار المخيفة في دهاليز الاضطهاد وإذا بهذه الكتابات بحبر الدم والألم تؤرخ للذاكرة الجماعية ونضالات الأجيال حتى لا تتناثر شظاياها في عتمة النسيان. وإذا كانت الكتابة عند سجناء الرأي من الرجال نوعا من مداواة جراح الجسد والذاكرة فلماذا تلتزم نساء النضال وسجينات السياسة في السبعينات الصمت والانزواء والابتعاد عن الأضواء؟

إذا كان فضاء التياترو قد اختار أن يفتتح موسمه الثقافي الجديد بعرض «أنتيقون الخالدة» بما هي ملحمة معارضة تلقى حتفها بسبب موقفها فذلك وفاء لفلسفة عامة تحيي الذاكرة الجماعية وتنفض غبار النسيان عن سجينات الرأي في السبعينات باعتبار أن أنتيقون ليست واحدة ولاحصر لها فأنتيقونات الأمس واليوم يعشن بيننا رافضات الرضوخ، صامدات الموقف، مناضلات حرية وديمقراطية...

جمع لشتات الذاكرة النسائية المنسية
ما بين صدق ووجع يتردد لنا في كتابات جلبار النقاش وعز الدين الحزقي والصادق مهني وفتحي بن الحاج يحيى... صدى آهات التعذيب في دهاليز السجون بسبب موقف ورأي كشهادة حية عن العصر ووثيقة نادرة للأجيال القادمة. فلماذا كتب هؤلاء ولم تكتب زميلاتهن في النضال والزنزانة؟ كان هذا السؤال دافعا لمديرة فضاء التياترو زينب فرحات لتنظيم ندوة بعنوان» الذاكرة الصامتة للمناضلات في السبعينات» استدعت فيها للحضور مناضلات يساريات ذقن ويل التعذيب في سجون السلطة في السبعينات معرّفة بهم للجمهور العريض الذي يجهل كفاحهن ومستفزة لهم على التكلم بعد أن صمتن سنوات وسنوات.

على الركح صعدن بكل شموخ في أنفة «أنتيقون» وكبرياء المرأة التونسية الحرّة، فكان اللقاء مع روضة الغربي وآمال بن عبا ورابعة بن عاشور وزينب الشارني ... لم يكن الأمر بالنسبة لهن هيّنا وهنّ المطالبات أمامنا باستدعاء الذكريات السوداء عن التنكيل والتعذيب وبتعرية تفاصيل الأذى والاعتداء في سنوات الجمر.
روت كل مناضلة منهن قصتها، فهناك من اقتصرت على عبارات مقتضبة وهناك من استرسلت في سرد معاناة لا تزال محفورة بذاكرتها كما بقيت آثار التعذيب على جسدها... ليس سهلا على السجينة السياسية أن تتحدث عن انتهاك جسدها مهما كان نوع الاعتداء وهو الذي فقد هويته وحرمته والحميمية مع الذات وأضحى أداة اضطهاد وتعنيف وحمّال أوجاع وآلام.

كل من تحدثت من سجينات اليسار في فضاء التياترو تملك من البلاغة والثقافة ما يؤهلها لكتابة صفحات خالدة كما تختزن من القهر والوجع ما يحركها لكتابة مجلدات لكن منهن من ترددت في البوح حتى لا تنبش جراحات الذاكرة ومنهن من اكتفت بالنضال تجربة ذاتية لا تقبل التشهير والمزايدة ... وفي النهاية هؤلاء البطلات لسن صامتات بل هن مناضلات إلى اليوم في جمعية نساء ديمقراطيات وفي مختلف تمثيليات المجتمع المدني رغم محاولات التهميش وتضييق الخناق حتى لا يزعجن مرة أخرى السلطة.

تكريم لمحامي سجناء الرأي في السبعينات
كما في الزنزانة الموحشة يقبع سجناء الرأي ضريبة للتعبير عن موقف مغاير للنظام وثمنا لخيار الخروج عن القطيع، يناضل المحامون في رحلتهم الشاقة بين أروقة المحاكم ودهاليز السجن من أجل الدفاع عن هؤلاء المساجين وإخراجهم من عتمة الاعتقال إلى نور الحياة. وفي اجتهاد طريف وظريف من زينب فرحات جمع ركح فضاء التياترو بين مناضلات السبعينات وثلة من المحامين الذين دافعوا عن من سجينات وسجناء الرأي في السبعينات.

فصعد على الركح عمداء ومحامون أجلاّء اشتعل منهم الرأس شيبا وسرقت منهم القضايا والمحاكم عمرا وحياة ولكن عشق المهنة النبيلة بقي فيهم ثابتا وقويا لا يتغير. في لقاء ممتع مع المحامين صادق مرزوق وعبد الجليل بوراوي وعبد الرزاق بلحاج يحيى وتوفيق بودربالة وعامر المحرزي وشوقي الطبيب ... كان استحضار الذاكرة للحديث عن بعض من مرافعاتهم عن سجينات الرأي خصوصا وسجناء الموقف عموما في بداية امتهان المحاماة وانطلاق مشوار الدفاع عن القضايا العادلة.

بفخر كبير تحدّث أصحاب «الرداء الأسود» عن قداسة المهنة ونبل المهمة في محاولات لا تكلّ ولا تملّ في مراوغة السلطة من أجل الإفراج عن موّكليهم من المسجونين بسبب موقف أو انتماء سياسي. ورغم قتامة اللحظة في استرجاع الذكريات عن عذابات الزنزانة وتجنّي السلطة في تلفيق التهم وتعطيل عمل المحامين، فإن ذلك لم يمنع الحضور من سجناء الأمس وكبار المحامين اليوم من سرد طرائف عاشوها في ممارستهم للمهنة وارتداء ثوب المحاماة.

عبادة الكافي... أسد المرافعات
«لأنه كان صديق الفنانين ومن جمهور المسارح وعشاق الفن» اختارت مديرة فضاء التياترو زينب فرحات تكريم المحامي الراحل عبادة الكافي بحضور ثلة من المحامين وعدد من أهل الفقيد... وفي لحظة مؤثرة تلت ابنة الراحل نصا مطولا بقلم عبادة الكافي عدّد فيه دوافع اختيار مهنة المحاماة وروى فيه البدايات وأهم القضايا التي طبعت ذاكرته ومسيرته... كما تحدث عنه الزملاء في المهنة وأفراد العائلة فأجمعوا على خصاله ومناقبه ومواقفه وأكدوا أنه لشراسته في قاعة المرافعة وصلابته في الدفاع عن قضاياه هو بحق «أسد المرافعات».

وعن قصة المحاماة مع الحريات ألقى رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وعميد المحامين السابق شوقي الطبيب كلمة بالمناسبة وقف فيها على دور المحامين المهم والمفصلي في تاريخ تونس قديما وحديثا، قبل الاستقلال وبعده، قبل الثورة وبعدها... مؤكدا أن أصحاب الرداء الأسود كانوا وسيظلون ناطقين باسم الحرية والحياة وصوت من لا صوت لهم.

المشاركة في هذا المقال