Print this page

الانبهار أو الخطوة الأولى لتعليم العلوم

قبل سنوات أمضيت يوما كاملا بمعية الفريق المشرف على القارب الشراعي العلمي الفرنسي Tara عند رسوه بميناء بنزرت بعد مهمة كبيرة

اسمها Tara océans امتدت على ثلاث سنوات وقادته الى بحار ومحيطات العالم من أجل معرفة أكبر لأصغر كائنات بحرية مجهرية Les Planctons والتي تمثل اساس السلسلة الغذائية البحرية .
عند حديثي مع المسؤول العلمي للمهمة Eric Karsenti وهو بيولوجي معروف ومدير ابحاث اراني صور مكبرة وملونة لبعض من هذه الكائنات التي كانت تتخذ اشكالا اقرب الى الخيال منها الى الحقيقة
وعندما لاحظ انبهاري واهتمامي الكبيرين بتنوع اشكال والوان الكائنات البحرية قال لي جملة معبرة وهي «ان العلم في بداياته كان قصة انبهار»…
تذكرت هذه الجملة و تساء لت حينها «هل يمكن ان يكون الانبهار افضل الطرق لتعليم العلوم بالمرحلة الاعدادية ?»
والانبهارL' émerveillement هو قبل كل شئء احساس طفولي وهوذلك الشعور الاول بالاعجاب والارتباط عندما ننظر الى نبتة جميلة ونادرة مثل السحلبيات مثلا او طائر ذو الوان خلابة اوكائن مجهري مكبر لا تستطيع العين المجردة رؤيته.
ان اهمية الانبهارعند الطفل تكمن في امكانية ان يكون المرحلة الاولى من اجل التعلق ومزيد تقبل ومعرفة اشياء كثيرة عن موضوع الانبهار.
وفي نفس هذا السياق ونحن نعيش «سنوات الفيروس» الذي غير حياتنا استطيع ان اذكر مثالا اخر له علاقة بمقدمتي : لقد كانت صورة تصدرت قبل سنوات غلاف المجلة الامريكية «ناسيونال جيوغرافيك وكانت موضوع مقاله الرئيسي, كانت الصورة مكبرة لمقطع من امعائنا والجراثيم المتنوعة الموجودة داخله.
اتذكر ان الفريق التقني لللمجلة قام انذاك بتلوين كل نوع من الجراثيم بلون معين وتكبيرها ملايين المرات فكانت نافذة شيقة لمشاهدة جزء من جسدنا مخفي عن ابصارنا ولكن وبفضل تطور التقنيات اصبح في متناول اعيننا .
وقد كان هذا مدخلا جيدا لقراءة المقال المنشور بنفس المجلة الذي كان لا يخلو من معلومات مثيرة ومهمة منها ان جزءا كبيرامن هذه الجراثيم هو مهم لبقاءنا في صحة جيدة لانها تخلصنا من بقايا الاكل العالقة في امعاءنا.
في تعليم حي وديناميكي كان يمكن مواكبة الحدث الاستثنائي الكوني الذي نعيشه منذ سنتين لتقديم عالم الفيروسات والجراثيم لتلاميذ الاعدادي عبر مثل هذه الصور المكبرة والملونة التي تكون افضل مدخل لاعطاء معلومات اضافية عن هذه الكائنات التي برغم اننا لا نستطيع رؤيتها بالعين المجردة فانها تستطيع ان تؤثر في حياتنا جذريا (ايجابيا او سلبيا ) .
ان مواكبة ما يحدث في العالم والاحداث الفصلية (تحدث في كل فصل ) والدورية وانفتاح المؤسسة التربوية على محيطها الطبيعي والعلمي هي من شروط «تقديم» العلوم في المرحلة الاساسية.
لقد قلت «تقديم « ولم اقل «تدريس» لان فترة التكوين الاساسي هي فترة ليست مختصة وانما هي فقط مراحل تاهيلية لمراحل أخرى .
شخصيا ما زلت اذكر الى اليوم تفاصيل الخرجة التي دعتنا اليها استاذة علوم الحياة والارض (وانا في السابعة اساسي ) الى الحديقة الوطنية ببوقرنين , لقد كان ذلك في فصل الربيع وكان الهدف هو البحث عن نبتة نادرة اسمها «بخور مريم الفارسي».
لم انس الى اليوم كيف تنقلنا بالقطار وكيف شعرت ا نني ادخل عالما جديدا عندما وجدنا انفسنا داخل الغابة وكيف بدانا البحث ولحظة الالتقاء بالزهرة الفريدة (لحظة الانبهار ) وكيف ساهمت هذه الخرجة في ارتباطي الدائم مع عالم الطبيعة والبيئة ولاحقا التنمية المستدامة .
وفي نفس هذا الاطار وفي مجال انفتاح المؤسسة التربوية على محيطها الطبيعي يمكن ان اذكر ما تقوم به اعرق جمعية بيئية تونسية وهي جمعية احباء الطيور (اسست سنة 1975) من اجل تقريب الناشئة من العالم الطبيعي عبر احد اهم مكوناته الجذابة وهي الطيور.
ان الجمعية تجتهد من اجل القيام بخرجات وحتى تربصات لمشاهدة طيور كل فصل .
ففي الخريف والشتاء تقع متابعة الطيور المشتية وخاصة بالمناطق الرطبة وفي الربيع تكون المتعة في الجنوب التونسي او في الهوارية لمشاهدة الطيور المهاجرة اما في فصل الصيف فان الطيور المعششة تكون هي الهدف .
ان الاطفال وهم يستمتعون بمشاهدة الطيور يتعرفون في ان واحد على كل الاوساط الطبيعية (المناطق الرطبة والجبال والغابات والصحاري و ) وخصوصياتها والجمعية في هذا الجانب هي مدرسة بحد ذاتها .
وقد قامت الجمعية عبر تاريخها الطويل بتكوين اغلب الايكولوجيين الميدانيين ببلادنا .
وفي مجال انفتاح المؤسسات التربوية مع محيطها العلمي فاني لا استطيع ان لا اذكر المجهود الكبير الذي تقوم به مدينة العلوم من اجل تقريب علوم الرياضيات والفيزياء والفلك من اطفال المدارس وذلك عبر مقاربات مختلفة وشيقة .
في مجال الرياضيات والفيزياء تقوم مثلا ورشات صغيرة في شكل حلقات ينشطها اساتذة بواسطة ادوات بيداغوجية غير تقليدية لتقريب مفاهيم تدرس «نظريا «في الاقسام فالمعادلات مثلا (الرياضيات) تفسر بواسطة اعتدال كفتي ميزان وكذلك تفسر مفاهيم فيزيائية مثل الضغط والكثافة .
أما قسم الفلك فيقوم بمواكبة الاحداث الفلكية الدورية التي تهم المجموعة الشمسية عبر دعوة تلاميذ المدارس الاعدادية لعيش هذه الاحداث ضمن برنامج متنوع وشيق.
لقد تقمصت مرة دور طفل وحضرت احدى هذه المواعيد الذي بدا بعد غروب الشمس بدرس نظري مبسط في «المدرج الكبير» كان مشفوعا بصور عملاقة تفسر الظاهرة الفلكية ثم انتقلنا الى البهو الخارجي اين كانت المناظير تنتظرنا .
لقد قامت المناظير بتقريب الكواكب البعيدة ولكن واحدا بقي الى اليوم في ذاكرتي وهو كوكب «زحل» ببساطة لان له جاذبية خاصة تعود الى «الحلقات التسعة الدائرية» الذي يحيط به والمتكونة من «غبار كوني»: لقد كانت لحظة المشاهدة الاولى سحرية باتم معنى الكلمة بالنسبة لي فما بالك بالاطفال .
ان عيش هذه اللحظات الاستثنائية يمكن ان تكون بالنسبة الى طفل الشرارة الاولى لعشق كبير اسمه «علم الفلك « واظن ان كل المختصين في هذا المجال بدات خطوتهم الاولى بوضع عيونهم في منظار …

المشاركة في هذا المقال