Print this page

إضاءة: لبيب.. رحلة بيئية أخيرة Labib come back

الطبيعة تأبى الفراغ، لذلك ظل لبيب، الرمز التحسيسي وشعار البيئة في تونس، بالرغم من إعلان البعض وقف صلوحيته، وتعطيل نشاطه..

عودة لبيب، محتملة، ولكنه لم يبارح..
وذلك لا يعني أن مدلوله مستمر، ومضمون برنامجه الأصلي ومبرر حضوره ثابت..

بعيدا عن الفكرة المسبقة عن لبيب، المجسم-الصنم..أو المشبوه المقترن برموز عهد بائد ولى واندثر..لبيب عنوان لضمير بيئي جمعي ووازع لالتزام بضوابط سلوك بيئي..
المفارقة أن المهرولين للاحتفال برحيله، لم يكلفوا انفسهم مشقة التفكير في البديل، ولم يطرحوا حتى مجرد أمل مستقبلي في المراجعة والتعويض.

ويستمر لبيب معلنا أن في هذه الأرض ما يستحق البقاء..وبحالها البيئي ما يستحق العناء..وبقرارات بعض سادتها ما يشبه الهزل واللهو..والبلاء

مازال قلبي متعلقا بالسلحفاة رغم حكايا أبي عن رمزيتها المشؤومة في الرؤيا، فهي مؤشر عن حدث مأسوي محتوم قريب، غير أن علاقتي بالفكارن، بدأت منذ نعومة الأظافر حيث أهديت سلحفاة صغيرة جدا، كانت عرجاء، فكنت أرعاها وأحفها بكل عناية، يشدني ظرفها ورشاقتها، وتؤسيني وجيعتها وهي تتحرك بعرجها..ودارت الأيام، وكتب لي أن افتتح حياتي المهنية معلما في أرياف كسرى(الفضول) في أواسط الثمانينات (التجربة موثقة بأقصوصة ضمن كتاب لي صدر سنة 1997 بعنوان، همسات على جناح الأمل أصدرته بمناسبة رحيل رفيق الدرب الدراسي والتربوي المغفور له رضا العبيدي).)

وكان أن انتبه التلاميذ خلال حصص المطالعة والتعبير لعشقي للسلاحف، فما كان منهم إلا أن اصطحبوا عشرات السلاحف متفاوتة الأحجام (من تعذر عليه العثور عليها في طريق المدرسة، اصطحب حرباء، أو ثعبانا صغيرا؟؟) وقمنا بحفر جب صغير وسط ساحة المدرسة أودعناها به، حتى موعد العطلة المدرسية، لأقوم بحملها في حقيبة خاصة,,وصلت معي سالمة لبيتي في حلق الوادي,,وبعدها بدأت قصص مآسيها، لتموت الواحدة تلو الأخرى، تعددت الاسباب والموت واحد..لا أنسى جريمتي البيئية الفظيعة، غير المقصودة,,

بعد سنوات 1992،كتب لي حضور ندوة صحفية لوزير البيئة يعلن فيها عن إطلاق رمز تحسيسي بيئي جديد، عن قريب لبيب،للبيئة حبيب, وخلال الندوة الصحفية سألت,ولم الاختيار على ثعلب الصحراء الفنك؟ فسألني بدوره، ما ترى من الحيوانات أجدر؟ قلت لم لا السلحفاة، فأجاب الوزير يبدو عليه البطء والغباء خلافا للفنك، الذي يمثل رمزا للنظافة..
وتستمر حكاية لبيب، الذي عزل بعد الأوان، ولم يوجد بديل عنه، برغم الحملات..والتحركات العشوائية والمحاولات المتخبطة في غياب الرؤية والمشروع.

صحيح أن لبيب عنوان لحقبة مضت كان فيها لغط وتأسيس ونصوص وبرامج ، لم يتم تقييمها والوقوف عند منجزاتها الحقيقية، وحدود مكاسبها ووقعها في الواقع.

ومع توالي الاحتجاجات على معضلات ومنشآت بيئية لم يقبل بها المتساكنون، تبين أنها أنجزت في غياب حوكمة وتشاور وأن العمل السابق كان يفتقر لمضمون فعلي واجتماعي يتضمن ما يلزم من تواصل مع السكان ويشركهم في مراحل اتخاذ القرار ورسم السياسة التي تخصهم.

غداة الإعلان عن تشكيل حكومي جديد، وقرب تكريس إجراءات بعث الهيئة الدستورية للتنمية المستدامة، وعشية استكمال المرحلة التأسيسية للهيئات الدستورية، مازال المجال البيئي يعاني وطنيا، من غياب الرؤية، وتراجع الاهتمام وضعف التمثل عند عامة الناس، في ظل استمرار فقدان، منظومة للتنشئة البيئية، على المواطنة، ومقومات السلوك البيئي المدني والحضاري.

كما تتزامن هذه المرحلة مع استمرار اندراج البيئة ضمن قطاع آخر، من قطاعات الإدارة والدولة، وهي الجماعات والشؤون المحلية، وهي وزارة كان يديرها رئيس الحكومة الحالي، وهو ما قد يبرر سر الوضع الراهن للحقيبة، قبل أن يضاعف حجمها في هيكلة الحكومة الحالية، وهي وإن بدت، ترقية، لا ترقى لمنزلة البيئة، بما هي قاسم مشترك ومنطلق سياسي لتكييف باقي السياسات القطاعية وتدخلات المؤسسات والهياكل والأجهزة، لا يمكن أن تكون تابعة لأي قطاع أو جهاز أيا كانت قيمته وأهميته.

وتشير التجارب العالمية الناجحة لتوافر هذه الأضلاع الثلاث، الإطار التشريعي المناسب والمجهود التواصلي المجتمعي الضامن لحيوية ضمير بيئي جمعي فعال لتقوي السلوكات لا فردية والجماعية، وهيكلة إدارية تضمن استقلالية المؤسسة البيئية لضمان علويتها وملامستها لكافة المتدخلين، وفاعليتها في التوجيه والتعديل والتصويب وحتى التقويم والردع.
ذاكرة لبيب، تحيل إلى محطات مسار وحلقات مسيرة حافلة بالتجارب والمنجزات والسقطات..

تاريخ العمل المؤسساتي البيئي في تونس ثري ومعقد، يحتاج لمراجعة وتوثيق وتأريخ.

وعلى امتداد الطريق، رجال ونساء أعطوا وأضافوا وراكموا مشاريع ومبادرات وجهودا تستدعي قبل النقد الصارم شيئا من التقويم والتثمين.
إن قصص نجاح بلدان منها رواندا وأثيوبيا تطرح علينا اسئلة وتحديات..

وبروز نجوم منها الإفريقية ونغاري ماتي الحائزة على جائزة نوبل والتي غرست ملايين الأشجار، وغريتا تونبرغ، التي لا يخفى الضباب والغموض الذي يحف بطريقة صعودها والأطراف المتحمسة لتوسيع دوائر نجوميتها، يدعو لاحتضان مناضلينا وإسناد خطى شبابنا المتحمس للمضي بعيدا براية البيئة ولواء رقي البلد.
كما إن مفارقات سلوك أفرادنا ومجموعاتنا السكانية المحير تجاه البيئة، يطرح سؤالا كبيرا حول مآل السياسات البيئية السابقة، والغائب المهول لمنظومة التنشئة والاتصال وبناء المواطنة البيئية، وهو ما يدعو حتما إلى تنظيم مؤتمر وطني لتقييم المنجز والخطط السابقة، وتشخيص الواقع، واستشراف آفاق إعادة تشكيل خطة استراتيجية تعيد ترتيب المنظومة وتعد لمقاربة مستقبلية مناسبة في مجال البيئة.

في انتظار تقويم الاعوجاج، وتدارك ما فات، وإفراد البيئة بوزارة أو هيئة تعلو الجهاز التنفيذي، أو وكالة بيئية كما في الولايات المتحدة، تظل «دار لبيب» القريب اليتيم، ويظل حلمه مؤجلا ليوم عودة لبيب للضمائر، وتحقيق حلم جيل من البيئيين في لفتة جماعية فعالة تعيد ترتيب البيت، وتحل المجال(لا الاقطاع) مكانته، خدمة لصالح المجتمع ونمائه، واحتراما لحقوق الأجيال.

المشاركة في هذا المقال