Print this page

رئيس حكومة جديد مكلف وبعد …

رئيس حكومة مكلف وحكومة جديدة في الأفق ولكن هل هناك لدى الذين يتشاورون حول تكوينها أي تصور شامل لتونس جديدة

يكون فيها المواطن سعيدا قبل كل شيء ?

سوف أبدأ من كون رئيس الحكومة الجديد قادم من مجال الفلاحة واسأل ماهي مشاكل الفلاحة في تونس والتي لها علاقة مباشرة بنوعية حياة التونسي ?

أولا تنظر الدوائر الرسمية إلى الأرض كوسيلة للإنتاج الأوفر والتصدير الأكثر من اجل تقليص عجز الميزان التجاري وتنمية الناتج الداخلي الخام ولكن هذه الرؤية لا تهم ولا تخدم بالضرورة المصلحة المباشرة للمواطن البسيط والدليل الدامغ والواضح على ذلك ان بلادنا هي المصدر الأول لزيت الزيتون في العالم ورغم ذلك فان سعر هذه المادة الغذائية الأساسية ليس فعليا في متناول التونسيين . وهذا ينطبق كذلك على منتوجات اخرى مثل التمور .

ان المنطق السليم للأشياء والذي يتوافق مع رغبات التونسيين يفرض ان المنتوجات الوفيرة تكون أولا وقبل كل شيء في متناول أصحاب الارض ولكن الواقع غير ذلك تماما .

ثانيا لاتهتم مصالح الدولة كثيرا بنوعية ما تنتجه اراضينا الفلاحية فهناك حقيقة علمية مؤلمة تقول ان الأرض اليوم هي مجرد «وعاء فيزيائي» للمنتوجات يعني ان الأرض لا تقوم بـ «تغذية» ما ناكله بل الأسمدة الكيميائية المتنوعة وهذا يعني ببساطة ان ما ياكله التونسيون خليط من المواد الكيميائية الخطيرة مما جعل Pierre Rabhi المفكر والفلاح الفرنسي من اصل جزائري يقول انه علينا ان نقول «حظا طيبا « لمن بدا بتناول وجبة غذاء بدل «شاهية طيبة « لما لهذه المواد من تداعيات خطيرة محتملة على صحتنا .

ولاعطاء مثال واضح على لا مبالاة الدولة تجاه هذا الموضوع ان منطقة الهوارية مثلا صنفت مند سنوات «منطقة نموذجية من اجل الفلاحة البيولوجية» ولكن وفعليا لا شيء وقع من اجل توعية وتشجيع وتكوين الفلاحين من اجل الانتقال السلس الى نوع جديد ونقي من الفلاحة وابعد من ذلك فان بلدية المكان قامت هذه السنة بتحذير المواطنين من ان طائرات تابعة لوزارة الفلاحة سوف تقوم برش مبيدات كيميائية ضد طفيليات تصيب الحبوب في إشارة واضحة الى تناقض واضح ولخبطة وعدم تناسق في عمل مصالح وزارة الفلاحة.

وهكذا ومرة اخرى فان الدولة تعمل ضد مصلحة ورغبات التونسي في ان يتناول خضرا وحبوبا وغلالا نقية تفيد صحته وليس العكس.

ثالثا تنظر الدولة الى الضيعات ك «مستغلات فلاحية « وتصف الاراضي الزراعية الصغيرة الحجم ب»تشتت للملكية «وهي بذلك تضرب مهنة الفلاح وما يعنيه ذلك من معارف وتقنيات مستدامة تراكمت منذ أجيال في الصميم، ذلك ان المستغلات الفلاحية تكون على صورة المصانع الضخمة التي تنتج نوعا واحدا ويصبح فيها الفلاح مجرد عامل يقوم بعمل روتيني وممل .

ان الضيعات الفلاحية الصغيرة بإمكانها ان تكون النواة الأولى للتنمية بكل جهات البلاد لو استطاعت الدولة ان تتصور نموذجا تكون فيه هذه الفضاءات مخابر حقيقية للفلاحة الطبيعية الخالية من الكيمياء مع إمكانيات انفتاحها على السياحة العائلية الداخلية والخارجية (إمكانية احتوائها على إقامة ومطعم صغيرين) وعلى انتاج الطاقات المتجددة والنظيفة .

ولكن يبدو ان هذا التصور الذي يتماشى مع اهداف التنمية المستدامة التي اقرتها الأمم المتحدة والتي صادقت عليها تونس لم يكن في حسابات أي حكومة من الحكومات الأخيرة رغم ان رؤساءها قادمون من المجال الفلاحي رغم ان معطيات القرن الذي نعيشه هو قرن التغيرات المناخية والتلوث العارم .

وهكذا فان الدولة كانت تخدم عجز الميزان التجاري وتجارة المواد الكيميائية والوسطاء وربما أصحاب الأراضي الكبيرة ولا تخدم ابدا المواطن التونسي الذي يجد نفسه مجبرا على اقتناء مواد غذائية غنية بالكيمياء بأسعار مشطة فكيف لانسان كهذا ان يكون سعيدا في وطنه ?

وللأسف فان ما يحصل في مجال الفلاحة يحصل في مجالات أخرى كثيرة مثل الصناعة والسياحة والصحة وغيرها حيث تغيب النظرة الحكيمة الشاملة والمستدامة والخدمة المباشرة للمواطن وذلك من اجل الوفاء لقوانين ليبيرالية متوحشة أظهرت العشريات الأخيرة ضررها الفادح على كوكب الأرض وعلى الانسان لان من يرسمون السياسات العامة قادمون من عالمي السياسة والإدارة وهي عوالم مغلقة على نفسها.

منذ أيام اكتشفت بالصدفة وأنا أتابع احد البرامج الصباحية لاحدى القنوات التلفزية الخاصة رجلا تونسيا اسمه «م ص» يتكلم بحب وبحماس عن ضرورة العودة إلى الفلاحة الأصلية وعلى كل القيم التي تم ذكرها في بداية هذا المقال :لقد درس صديقنا التجارة في باريس ثم جاب الولايات المتحدة لسنوات وفي اثناء هذا الترحال الحر تعرف على أشياء لا تستطيع المدارس ولا الجامعات ان تقولها ليعود الى تونس ويختار العمل في مزرعة والده وفق قناعاته الجديدة وهو الان يجتهد من اجل نشر ما تعلمه.

لقد استطاع «م ص» أن يتخلص من العوالم المغلقة على نفسها ولذلك فان مثل هذا الرجل وأمثاله فقط يستطيعون أن يرسموا السياسات الفلاحية المثالية لبلادنا ولكن ولأسف فان مثل هذه الإمكانية شبه معدومة لان مثل هؤلاء لا يستطيعون أن يكونوا سياسيين او إداريين أو كفاءات مشهود لها .

ولكن ورغم كل شيء فإننا نأمل في الخير لتونس ولشعبها …

المشاركة في هذا المقال